خِيارُكم أحسنكم قضاءً للدَّيْن

حديث نبوي

الحياة تقوم على التبادُل، و تسير على قانون الأخذ و العطاء، وهذا القانون من أوضح قوانينها في كل تفاصيل الحياة، فما أراد شيئاً قدَّمَ مقابله ما يستطيع من خلاله الحصول على شيئه، فهو قانون متمكِّنٌ في كل شؤون الناس، بلا استثناء لشيء منها.
 
العطاءُ صفةٌ ذاتيةٌ، مغروزة في الأنفس الكريمة، لأنه صفةُ كرم و كمال، و الشيءُ حيثُ مَغْرَسُه، تتنوَّع مظاهره و صوره في حياة المُعطي، و تختلف العطاءات باختلاف الأحوال، و أجودها ما كان مناسباً في كل جهات العطاء.
 
العطاء من أصول صناعة الحياة، ومن الأُسس التي تجعل الإنسان راغباً في الحياة، لأنه يجد في العطاءِ تحقيقاً للكثير من كمالات بناءِ كمال ذاته، ففيه كمالُ الأفعال، غيرَ ما هو مضمون في قانون العطاء من ردِّ الشيءِ المُعطى بالأضعاف، و الحياة جعل الله فيها كرَماً، فمن أعطى شيئاً للحياة أُعطِيَ ليكون حياةً.
 
بعيداً عن العطاءِ كشيءٍ من الكرَم و الجود، فإننا ننظر إليه بعين أُخرى إلى أنه سرٌّ من أسرار الخلود في الحياة، فليس هو مجرَّد صفةٍ أو خُلُقٍ، يتحلَّى به الإنسان، و إنما هو عنصر مهم في إبقاء الإنسان، و إبقاء جواهر الحياة و حقائقها دائمة تسري في الوجود. لأجل هذا كان قانوناً و لم يكنْ خُلُقاً، و قُيِّدَ الكثير من الأمور ليتحقَّقَ بإقامة العطاء. عندما نُدرك هذا الشيء فإننا سنكون راغبين كثيراً في أن ننتهز كل فرصة تواتينا لبذل العطاء.
 
كل عطاءٍ قيمته في أثرِه، وهنا يأتي دور تنوُّع العطاء، فليس العطاءُ بذلَ المال، و لا النجدةَ بالوقت، و لا منْحَ الجُهد، إنما هو في أساسه تحقيقُ أثرٍ من خلال بذلٍ، و الآثار ليست واحدة، حيثُ اختلاف الحاجات، فحاجات الحياة كثيرة جداً، و أجود الحاجات ما كان ظاهراً في الوقت حينها، فهنا يكون العطاء أعظم و أنبل، فليس عطاءً محموداً في زمن اغتناء الناس بذلُ المال، و لا في زمن الجهل أيضاً، فقيمة العطاء في قيمة الحاجة الظاهرة.
 
و أجود العطاءات؛ عطاءُ العقلِ، في تنميته بالعلم و المعرفة و التفكير و التأمل، في كل ما يحتاجه الناس مما يهم حياتهم، و أجود هذا العطاء ما كان جوهراً، و كان إضافة متينة، و كان زائداً بالتميُّز عن سابقه، و التكرارُ للسابق ليس عطاءً له قيمة في الحاضر، فلكل عصر علومه ومعارفه.
 
و عطاءُ الجسد من أجود العطاءات، إذ فيه حفظٌ لقيمته، و صيانة لبنائه، و رعاية لصحته و سلامته، من خيث أمورٍ كثيرةٍ متعلقة فيه، و لا تكون عطاءات الجسد سليمة، بل لا تتحقَّق، إلا بعد أن تكون عطاءات العقل، و العطاءُ يُجوَّدُ أثرُه في تجويد أصله.
 
و العطاءُ بقيمة المُعطي، على قاعدة ” الحويجة و الرُّجَيْل “، فليس لائقاً بالكبيرِ أن تكون عطاءاتُه كعطاءات الصغار، و لا بالغني كعطاءات الفقير، و لا بالسلطان كعطاءات الرعية، فالعطاءات على الوجائه و المناصب، و عندما تكون العطاءات أقلَّ من مقام المُعطي فإنه أقرب إلى الإمساك بُخلاً عن الجودِ عطاءً، و يُلاحظ في ذلك مناسبةُ العطاء للمُعطَى، فليس أيضاً لائقاً بالصغير أن ينال عطاءات ينالها الكبار، و هكذا، فالشأن في التناسُب ومراعاته.
 
طلب العطاء ليس عيباً، فما جرَى العطاءُ إلا بالطلب، سواءً أكان طلباً محسوساً، أو كان طلباً مُسْتَشْعَراً، و ذاك أن العطاء غالبَ حاله أنه لا يكون إلا كذلك، فإن جاءَ الطلبُ فليكُن المُعطي سبَّاقاً، فهي فُرَصٌ قد لا تعود، و حيث يجيء الطلب فإن في مضمونه تميُّزٌ.
 
لا عطاء يضيع، فكل عطاءٍ ستعود ثمارُه على المُعطي، و سيُدرك ذلك يقيناً، فقط؛ ليكن معطاءً بجودٍ و صدقٍ و نفسٍ طيبة في العطاء، و حينما تعود أرباح العطاء فإنها تعود مضاعفة، لا مثْلاً بِمِثْلٍ، فهو استثمار في الحياة، وهو عطاءٌ مضمون العوائد.
 
عوائد العطاء من ذاتِ المُعطى، فمن أعطى مالاً عاد إليه مالٌ، ومن أعطى جُهداً أُوتي بمثل، كل عطاء يُكافأ صاحبُه بمثل ما أعطى، ومكافأة خيرٍ و فائدة.
 
صناعةُ الطلب في حياتنا يجعل للحياة طعماً مختلفاً، و يجعل فيها لذةً لا نكاد نجدها في أي شيءٍ آخر، فيجعل في نفوسنا الشوق إلى الحياة، الشوق الذي يبلغ بالنفوسِ نهاياتٍ عظيمة من استشعار الكمالية، و استحضار القيمة الشُّهوديَّة، المُحقِّقتان للعلَّة الوجودية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين