خواطر في عمل المعارضة

د. عماد الدين خيتي

 
في خضم العمل والكتابة عن الثورات العربية وتوجيهها، والأنظمة الاستبدادية ومآلها، وكيفية مدافعتها، كانت هذه الخواطر حول عمل ومواقف أحزاب المعارضة وتجمعاتها المختلفة، ليس طعنًا فيها أو انتقاصًا منها، لكنها أفكار في إعادة النظر في بعض جوانب عمل المعارضة؛ ليكون لثوراتنا ثمرة تقطفها مجتمعاتنا وشعوبنا بعد تلك التضحيات الجسام، فلا نخرج من مساوئ الأنظمة القمعية الاستبدادية لنقع في بعض أفكارها أو تصرفاتها.
أولاً: إشكالية الاختلاف والائتلاف:
مع تنوع وتعدد الفئات التي تعارض الأنظمة الاستبدادية القمعية، سواء منها من كان في المعارضة، أو من اشترك في الثورات والمظاهرات: تبرز مشكلة اختلاف الآراء والاجتهادات والانتماءات، مما يستدعي من القائمين على المعرضين التحاور والتجمع من أجل توحيد الجهود، والوصول للهدف المنشود: إسقاط النظام.
فمن المعروف أن أطياف المعارضة من أحزاب وجماعات تختلف عن بعضها اختلافًا كبيرًا: في الأسس التي تقوم عليها، ونظرتها للحياة الاجتماعية والسياسية، والأهداف التي ترمي إليها، ومع كثرة الاختلافات وعمقها: هناك حدٌ أدنى ينبغي أن تتفق عليه المعارضة بأطيافها المختلفة والذي لا يُشكل اختلافًا فيما بينها: كإسقاط النظام، وبناء الدولة على أسس تكفل الحرية والعدالة، وتفكيك المنظومة الأمنية التسلطية، ورفض التدخل الخارجي بشقه العسكري الذي لن يجلب للبلاد إلا الدمار والهوان، وغير ذلك.
ومن المؤكد أنَّه سيكون في بعض أطراف المعارضة من لا تُقبل جميع مواقفه أو آراؤه، فيُتسامح في عدم التعاون أو التآلف معه في أوقات الرخاء، أما أوقات الأزمات، كالثورات مثلاً: فإن عدم الاجتماع وتوحيد المواقف في غاية الخطورة، ويؤدي إلى آثار سيئة من أهمها:
1_ تغذية الأنظمة الاستبدادية لهذه الاختلافات، والعمل على توسيعها واستغلالها لصالحها.
2_ تشتت الجماهير بين الأطراف المتنافسة مما يؤدي إلى الاختلاف والتناحر.
3_ شيوع التنافس على المكاسب بين أطراف المعارضة، وإبراز النفس، والانتصار للانتماء للحزب أو  القومية بدل توحيد الجهود لمقاومة الاستبداد.
4_ شيوع عقلية التخوين والطعن في النوايا، وتفسير الكلام والمواقف على أسوأ تفسير ومعنى، بسبب عدم تفهُّم موقف الطرف الآخر، وبُعد التنسيق معه.
5_ إيغار الصدور تجاه الآخرين، مما قد يدفع البعض _نكايةً في الطرف الآخر_ لعقد تحالفات أو الحصول على تنازلات تمكن له الريادة والسبق في الوصول إلى الحكم، ولو مع أطراف خارجية، أو من داخل النظام القائم.
تنسيق المواقف لا يستلزم الرضى بما عند الآخر:
 إنَّ التجمع وتنسيق المواقف لا يستلزم القبول بكل ما يطرحه الطرف الآخر أو يعتقده، كما أنَّه لا يعني الاندماج وذهاب التاريخ المستقل لكل تجمع، بل هو تنسيق مواقف للوصول إلى هدفٍ مُحدَّد.
الائتلاف والزعامة:
أهم ما تواجهه المجموعات المختلفة عند التنسيق والاجتماع مشكلة المناصب القيادية، وعدم رغبة بعض الأطراف بالتنازل للأطراف الأخرى عن القيادة، سواء كان ذلك لعدم القناعة الكاملة بالطرف الآخر، أو لسابق علاقات تاريخية متوترة، أو لحب الزعامة والتَّصدُّر _الذي جُبلت عليه النفس البشرية_ ونحوها، وإن لم يُتنبَّه لهذا الجانب فستكون النتائج مدمرة.
ويمكن التغلب على هذه الإشكالية بطرق مختلفة: كالإبقاء على الكيانات مستقلة مع عقد تحالفات، أو تنسيق المواقف، أو توزيع المناصب القيادية، ونحو ذلك، فلا يشترط لتنسيق عمل المعارضة أن تكون تحت كيانٍ واحد، بل يمكن أن تكون تحت عدة كيانات لكن يجمعها تآلفٌ وتنسيق.
ثانيًا: الحذر من الانجرار لملفات غير نزيهة:
مع أهمية التجمع والتآلف كما سبق، إلا أنَّه ينبغي الحذر من توريط الشعب أو الأفراد والجماعات بمواقف أو تحالفات تكون عاقبتها وخيمة على المدى البعيد.
فالدول _وخاصة الضعيفة_ في هذا العصر لا يمكن أن يحدث فيها ثورات وتغييرات كبيرة بمثل هذه المستويات دون أن يكون للدول الكبرى أو المحسوبين عليها تدخلٌ أو عمل ولو غير مباشر، كما أنَّه من المعقول أن تكون بعض مصالح تلك الدول تتقاطع مع بعض أطراف المعارضة في إزالة ذلك النظام، لكن ينبغي أن يكون المعارضون على مستوى من الإدراك ألا يدخلوا في التحالفات التي قد تضر بثورتهم، أو تسرق نتيجتها، أو تؤثر في صياغة مستقبل البلاد، أو ترهنها سياسيًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا.
 
ائتلاف لا تزكية:
كما أنَّه ينبغي أن تكون هذه التحالفات والائتلافات بحيث لا تضر بالمجتمعات أو تغرر بها، فقد يكون في بعض أطراف المعارضة أو من تتعاون معها من لا تُقبل أفكاره، أو توجهاته، أو سياساته، لكن يُتحالف معه لهدفٍ مُعين، فلا ينبغي أن يكون في هذه التحالفات تزكية له، أو إخفاء لجوانبه السلبية، بحيث يلتبس أمره على الناس، ويظنون به ما ليس هو من أهله، ففي ذلك غش لهم.
ثالثًا: ثنائية خبرة الكهول، وحماس الشباب:
من المُسَّلم به: أنَّ الثورات والمظاهرات التي بدأت في العالم العربي إنما كانت على أيدي الشباب، وما زالوا هم قوامها وأعمدتها، لذا كانت تضحياتهم فيها: استشهادًا، وجراحًا، وأسرًا أكثر من غيرهم من الفئات.
كما أنَّ عددًا كبيرًا منهم لم يمارس عملاً جماعيًا أو معارضًا فيما سبق، فلم يدخلوا ميدان المعارضة والثورةِ عن سابق خبرةٍ أو تخطيط وتنظيم، وإنما كانت انتفاضتهم عفويةً للعزة والكرامة، ومع كثرة التجارب، وطول الزمن، وشراسة الأنظمة في الوقوف ضدها، والاضطرار إلى تنويع وتغيير أساليب مقاومته، والنصائح والإرشادات: تطورت قدراتهم وأعمالهم بشكلٍ لافت، وفي حال الثورة السورية والتي هي على أعتاب الشهر التاسع: ظهرت قدرات وخبرات عظيمة من هؤلاء الشباب في إدارة العمل الميداني والسياسي.
فأيُّ الفريقين أولى بالقيادة: الأحزاب التاريخية ذات التاريخ المعارض الطويل، أم الطاقات الشابة الحديثة؟
عند النظر في خصائص كل مرحلة نجد أنَّ كبار السن ممن لهم تجارب أو خبرات سابقة أقدر على التعامل مع الأحداث والمسائل المطروحة؛ لما مرَّ بهم من أحداث مشابهة لها.
أما فئة الشباب: فإنهم أكثر قدرة على التحمل والعمل والإنجاز؛ لما لديهم من قوة الشباب وحماسته.
وفي المقابل عند النظر في سلبية كل من المرحلتين السابقتين:
فالكهول: كثيرًا ما تدفعهم خبرتهم السابقة إلى التشبث بآرائهم ظنًا منهم أنهم أخبر وأعلم، أو بدافع الإلفة الطويلة لأفكارهم وأساليبهم القديمة، مما يدعو إلى رفض الأفكار والآراء الجديدة، ومراوحة المكان في الأدبيات، والمنطلقات، وصيغة الخطاب الأسير لعقود سابقة، مما ينتج عنه استبدادٌ بالرأي ورفضٌ لآراء الآخرين حتى ولو كانوا من الانتماء ذاته، والذي قد يؤدي إلى خروج أجيال من الشباب عن الكيانات الأم، لعدم قدرتهم على إيصال أصواتهم أو أفكارهم إلى مراكز صنع القرار، أو تكوين تجمعات وأحزاب أخرى بديلة عنها.
أما الشباب: فقد تدفعهم حماسهم دون خبرة كبيرة إلى التصرف بغير حكمة في بعض المواقف.
والمخرج من ذلك: الاعتناء بجيل الشباب، ونقل الخبرةِ إليهم، دون الحجر عليهم بإلزامهم بأساليب وأفكار من سبقهم، فضلاً عن استبعادهم ونبذهم، والتمسك بزمام القيادة والحرص عليها، مما يضمن نقل الخبرات لجيل الشباب، وتجديد دماء الأحزاب والجماعات، مع الإبقاء على الاستفادة من جيل الكهول وخبراتهم وآرائهم دون نبذٍ لهم أو استغناءٍ تامٍ عن خدماتهم كما هو شائع في ثقافة التقاعد في العالم العربي: من قمة التأثير والسلطة، إلى أقصى الإهمال والإجحاف.
أما أن تبقى العديد من الأحزاب والجماعات محصورةً في إطار مُعين فليس في صالح المجتمع، فمن المضحك المبكي عند النظر في أحوال العديد من المعارضات والحركات الثورية والنضالية في العالم الثالث _على تفاوت بينها_ أن نجد زعمائها وأصحاب قرارها في الغالب: شخصيات تسيطر على قراراتها ومجالس إداراتها منذ عقودٍ طويلة، بل إنَّ بعضها لا يعرف رئيسًا أو قائدًا إلا الشخص أو مجموعة الأشخاص المؤسسين من عشرات السنين.
وقد تقتصر الزعامات ومجالس القيادة على انتماء لمكانٍ معين، أو عائلة معينة؛ فيكون للوراثة والقرابة أثر كبيرٌ في القيادة واتخاذ القرار.
فكيف تستطيع هذه الجماعات تقديم نظرة مختلفة عن نظرة الأنظمة المستبدة إذا كانت تتعامل مع الشعوب بالعقلية نفسها؟
رابعًا: التواضع:
المطلوب من المعارضة بكافة أطيافها التعامل مع الناس والمجتمع وبقية أطياف المعارضة بتواضعٍ وعدم تكبر، ومن صور عدم التواضع:
1_ إرجاع الفضل في قيام الثورات لها، مع أنَّ الواقع يشهد أنَّ الثورات العربية شعبية عامة، لا تنتمي لأي حزب أو جهة ما، وإن كان للعديد من جهات المعارضة مشاركة فيها بشكل أو آخر.
2_ عدم القبول بالتحالف مع أطراف أخرى للمعارضة ترفعًا عنها وازدراءً لأفكارها أو أشخاصها.
3_ النظر للشعوب نظرة استعلاء وإملاء، والطلب منها ترك الميدان لها بعد انتصار الثورات؛ لأنها هي الأقدر على قيادة الشعب، ولا فرق حينذاك بينها وبين الأنظمة المستبدة في ادعاء (عدم صلاحية الشعوب العربية للديمقراطية).
4_ اعتقاد أنَّ صلاح الشعوب أو تقدمها أو سعادتها وقفٌ عليها وحدها، مما قد يعود عليها بتقديس أفكارها وعدم النقد لها، أو النظر لبقية الأحزاب والجماعات نظرة دونية، أو حتى بذل وسعها في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم لتقديم ما تعتقد أنَّه الأفضل، وإن كان ذلك على حساب تقديم تنازلات كبيرة من أفكارها ومبادئها، أو الأسس التي قامت عليها.
خامسًا: التاريخ النضالي في الميزان:
يحتج العديد من الأشخاص أفرادًا كانوا أو جماعات على صحة مواقفهم وقراراتهم بتاريخ جماعتهم أو حزبهم أو نضالهم السابق، أو تعرضهم للسجن أو التضييق أو حتى اضطرارهم للخروج من البلاد، والأمر لا بد فيه من تفصيل والنظر إليه: باعتبارات متعددة: باعتبار الخبرة، والسَّبق، وأثره في حال الخطأ، وأثره في صحة المواقف الحالية.
1_ أما من ناحية الخبرةِ والمعرفة: فالتاريخ العريق له أثر كبيرٌ في تكوين الخبرة السياسية والثقافية إذا عمل صاحبها على صقلها وتحديثها والاستفادة من الأخطاء والتجارب، وإلا استحالت عقليةً جامدة تعيش خارج الزمان.
2_ وأما من ناحية السَّبق في التأسيس والوجود: فليس السبق دليل أفضلية دائمًا، ولا دليل صحة رأي؛ فقد تسبق بعض المعتقدات أو الآراء لمكانٍ بسبب ظروف شتى، وإلا لكان ذلك دليلاً للوثنية أو غيرها من الأديان في سبقها للوصول إلى بلدان كثيرة قبل الإسلام!
3_ وأما من ناحية التجاوز عن الأخطاء: فمن المؤكد أنَّ التاريخ المشرف، والسَّمت الحسن يشفع لصاحبه عند الخطأ في بعض الأمور، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أَقِيلُوا ذَوِى الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، إِلاَّ الْحُدُودَ) رواه أبو داود، إلا أنَّ هذا الأمر له ضوابط وليس على إطلاقه، كأن لا يكون الأمر فيه تعدٍ على حقوق الآخرين، أو ألا يدخل في نطاق الأمور العظيمة كالخيانة العظمى.
كما أنَّ هذا التاريخ المشرف قد يكون شفيعًا في الأخطاء الشخصية أو الخاصة، أما على صعيد العمل الجماعي والشامل للمجتمع: فالأمر لا يقبل العفو والتجاوز.
4_ بالنسبة لصحة المواقف، وهو أكثر ما يُستدل به: فليس بصحيحٍ إطلاقًا، فسابق التاريخ والنضال إنما هو خبرة ودروسٌ من الماضي للمستقبل، وليس صك براءة مؤبد.
ففي القرآن الكريم يخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر: 65]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) متفق عليه.
فالعبرة في صحة العمل: موافقته للضوابط الخاصة به: دينيًا كان أو دنيويًا، وليس بما سبق من الأعمال.
وأخيرًا:
فإنَّ مما يجب أن تتنبَّه إليه المعارضة بأطيافها المختلفة: أنَّ الثورات العربية قد أحدثت تغييرات كبيرة في شتى أطياف المجتمع: فكريًا، واجتماعيًا، وسياسيًا، مما أنتج ثقافة مختلفة عما كان يسود قبلها، مما أدى إلى تفوق تلك الشعوب على العديد من الأحزاب والجماعات في اتخاذ بعض المواقف والقرارات، وعدم قبولها بجوانب مما كانت تقبل به سابقًا، وهذا يتطلَّب من أطياف المعارضة المختلفة أن تواكب شعوبها في هذا التغيير، والتطور، وأن تكون صادقةً في التعبير عن أفكارها وتطلعاتها، وعلى قدر المسؤولية الملقاة على عاتقها، ولو كان ذلك بإعادة النظر في بعض أدبياتها، أو اهتماماتها، أو شعاراتها، أو خطاباتها، أو حتى في حقيقة الحاجة إلى وجود بعض أطيافها أصلاً!
  

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين