إنها الثورة...
تجري مع هذه الثورة، وعلى هوامشها، عمليات التشذيب والمراجعة والغربلة والتدقيق، في أفكارنا وسلوكنا وثقافتنا ورؤيتنا للحياة والأمور والأشياء من حولنا.. وفي علاقاتنا الإنسانية المُشوهة، وقصورنا اليوم عن الاِرتقاء بأخلاقنا وسلوكياتنا الفردية والجماعية والاِجتماعية، إلى مستوى حضارتنا وهويتنا..بل وفي ذواتنا، وعِلَلِها التي ترتبت عن الاِستكانة الطويلة للمًستَعمِرين والمُستبدين والمُفسدين.
جاءت هذه الثوة، لتكون مرآتنا، التي تُعْرَض عليها أنفسنا لنراها على حقيقتها.. دون أقنعة ولا رتوش.
إنها الثورة.. وأيامها المجيدة المريرة، التي قضى الآلاف في سبيل أن يَرَوْها رأي العين، ويَلْمَسونَها بأنامل الحقيقة.
لكننا تشرفنا بها، نحن.. أبناء هذا الجيل كباراً وصغاراً، بين زمنين، بين قرنين، وبين عالَمَين.
تشرفنا بها.. بكل ما فيها من ألَق الحياة، وعُنفوان دَفَقات الدِّماء الزكية في صدور الثائرين.
تشرفنا بها، بالمِحْنَة.. بالعذابات والزلازل والأهوال والفظائع، وكل آلام الولادات ودمويتها.
كما تشرفنا بها بالمِنْحَة.. نشبنا أظافرنا في جدار الرعب، عشنا سِحْر اِرتعاش أجنجة الروح لحظة الاِنطلاق من القمقم، تَطَهَّرنا بمحاولات التَطهير، الذي يُشْكِلُ اِستيعاب آلياته، لحظة اِنفِجار البراكين، و اِجتياح الأعاصير، لواقعٍ مريرٍ ذليلٍ مُسْتَعصٍ.
وفي الثورات، عادة ما تَفِرّ الأمور، من قيد العقل والمنطق، وتنفجر الجروح الغائرة في الأرواح، بقيحها وعفنها.
في الثورات تختلط الوقائع، وبعض الحقائق، وينفلت كثير من الثوار من عقال المنطق والعقل والأخلاق.
إنها الثورة.. التسونامي، يَضرب دون حسابات، ويُزلزل دون رحمة، ويَهدم دون نقاشات أخلاقية.
في الثورات، كما في الحروب، يَنفلت أمضى سلاح سَلَّطَهُ الطغاة على رقاب العباد، المُتَمَثِّل في: "حرمان الشعوب من حِسِّها الإنساني الأخلاقي"!
الشعوب الجريحة في مقتل، تَضْرِب كالأعاصير في لُجَج الظُلُمات، ولا تجد وقتاً للوقوف والتأمل والمُراجعات، وهي تتقدم لاهثة متعطشة لشيء من حرية وكرامة.
إنها الثورة.. التي تهفو فيها القلوب إلى الخلاص، كفراش ٍ لا يأبه في رقصة اِستشهاده بمعانقة النيران.
ليَخْتَر كل منا موقفاً ومكاناً وفريقاً يَصْطَف معه.. فهذا هو الاِمتحان الذي يُكرَم المرء فيه أو يُهان..
لقد بدأت للتو في المنطقة العربية، وستستغرق وقتها ومِحنها وضريبتها..وهي قَطعاً، غير معنية بإسقاط الأنظمة السياسية المتعفنة، فحسب.. ولكنها تتحرك بخطىً بطيئة ثابتة، لزلزلة عروش كلّ سلاطين الجور والبُهتان، والاِستبداد السياسي والثقافي والديني والفكري والأخلاقي والاِجتماعي في حياتنا.
إنها الثورة.. كوّة النور التي تتوسع يوماً بعد يوم، حتى ترى الأمة نور الفجر.
خواطر في زمن الثورة / رتقٌ على جراح الذاكرة
#خواطر_في_زمن_الثورة_نوال_السباعي
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول