خواطر في زمن الثورة (2)

"الفِتنة-الزَلَّة" على هامش هذا الاِستلاب المهول!!

ما عاد يُمكن لحاكم ظالم، أو عالِمٍ بالدين مَفتونٍ بنفسه وعلمه ومكانته في المجتمع، أن يُدَغْدِغوا عواطف الشعوب بِمَنْحِها شيء من "دين الله"، يُسْكِتها عن اِستلاب الدين كله، بأبعاده الحضارية والأخلاقية والإنسانية.

اِفتتاح مدارس تحفيظ القرآن، والسماح بحلقات العلم في المساجد، وتصدير الدعاة المحليين إلى الفضائيات الإسلامية، والسماح للمسلمات باِرتداء الحجاب في بلادهن المسلمة.. ما عاد يُغني الناس عن "روح الدين"، التي "اِستلبها" منهم الطغاة لتركيعهم، و"صَمَتَ عن اِستلابها" علماء السلاطين، لِتسكين آلام قيود العبودية في الرقاب..ظناً منهم، بأنهم إنما يحفظون هوية المجتمع، ببعض مَظاهِر من الدين، على هامش هذا الاِستلاب المَهول.

إنه تحالف الطغاة المُزمن مع بعض "رجال الدين" الذين باعوا دينهم وضمائرهم معاً.. يتاجر المُستبدون من خلاله بدين الله، ويُقايض مُدَعوا العِلم فيه "بعض الدين" بالدين كله.. روحه ومبادئه ومعاملاته وآدابه وقيمه العُليا و ربّانيته.

وإنه من أول ما سقط في هذه الثورة.. هذا التحالف البئيس، تحالف رجال السلطة، مع مشايخ السُلطة.

كائنة ما كانت قدرة أولئك على البطش والإرهاب، وبالغة ما بلغت قدرة هؤلاء على المداراة والمحاباة والتحذير من "الفتنة"!!

عن أي فتنة يتحدثون؟؟ كأنهم لا يعلمون أن "الفتنة" هي أشدّ من القتل..

الفتنة التي قد تكمن في الدين، أو في رؤية الأشياء، أو في تصور الأمور، أو في فهم ما يجري.

وإنها "الفتنة" التي سقطت فيها البلاد والعباد وهم يرضخون للذُل والإهانة، وأي فتنة أعظم من ضياع الهوية وشعور الإنسان بالاِنتماء، وتسليط قوى أجنبية اِستعمارية-اِستيطانية على رقابنا، تنهب ثرواتنا، وتُرَكِّع الناس، وتُغَيِّر طبيعة هويتنا الدينية والحضارية في صَمتِ ودأبِ الثعابين تحيط بفرائسها.

كيف يمكن لمن يدّعي العِلم أن يرضى الذل والعار؟ وأن يقف ضد الثورة، ويطالب الناس بالسكوت عن الحقد الطائفي الأعمى، مافتيء يُدمِّرنا منذ أربعين عاماً، وقد تفجر كلّه اليوم في زمن الثورة، قتلاص وتعذيباً وترويعاً.

إنها مشكلة الإنسان، المحروقة أنفاسه، بين فكي الظلم والفساد، والقهر المُكعب والذل والإهانة، والنهب المركز لكل شيء، والكذب والبهتان والتلفيق.

ناهيك عن تمدد "الأغراب" في جسد المجتمع، ونخره من داخله، وتفكيكه بكل الوسائل الممكنة، وسلب إرادته وتماسكه، وكل أمل للناس بأي مستقبل كريم، في وطن يَلُمُهم لا يخشون فيه مِن القتل، و مما هو أعظم من القتل.

مشكلتنا ليست وما كانت، مشكلة "نشاطات دينية ظاهريّة"، إنها مشكلة إنسانية، فكرية، أخلاقية، تربوية.

الإنسان فيها، يَئن، ويَتلوى ألماً وقهراً، يُريد أن يَحيَا حُراً كريماً، بعيداً عن الأغوال التي تنهش لحمه وعرضه ووجوده.

نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اِتِّباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويَرزقنا اِجتنابه.

فإن اِختلاط الحق بالباطل لَهو الاِختلاط، ولَهو الفتنة، ولَهو "الزلة القاتلة".. أن نُمرر ثورة كهذه الثورة من ثقب إبرة مفاهيمنا القاصرة عن "الفتنة"!

وإنها لَمَذَلَّة، دونها كل زلة"!

خواطر في زمن الثورة / رتقٌ على جراح الذاكرة
#خواطرفيزمنالثورةنوال_السباعي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين