خواطر حول مفهوم البدعة

في عصر الصحابة "ابتُدِعَتْ" بدعٌ عدها الأئمة والفقهاء بدعًا حسنة، وأغلبها ليس له دليل خاص من القرآن أو السُّنَّة بل مندرج تحت أدلَّة عامَّة.

من ذلك:

جمع عمر رضي الله عنه الصحابةَ على التراويح في المسجد بإمامين في عشرين ركعة، وجعْلهم بين كل أربع ترويحة، وإضاءة المسجد في رمضان، وهذا ليس له أصل خاص، بل داخل تحت الأصل العام وهو الحث على قيام رمضان.

عرَّف ابن عباس في مسجد البصرة (جمع الناس في المسجد يوم عرفة للدعاء والذكر وما شابه تقليدًا لأهل عرفة) وهذا مندرج تحت الأصل العام وهو فضل يوم عرفة.

كان أنس يجمع أهل بيته لختم القرآن والدعاء عند ختمه.

أوصت السيدة فاطمة عليها وعلى أبيها الصلاة والسلام أسماء بنت عُمَيْس أن تصنع لها نعشًا، وكانت أسماء بنت عميس رأت ذلك في الحبشة، فأخبرت سيدتنا فاطمة به، فصنعت لها مثل هودج العروس، قالت أسماء لأبي بكر وهو يومئذ زوجها: وأريتها هذا الذي صنعت وهي حيَّة فأمرتني أن أصنع ذلك لها.

كثير من الصحابة سرد الصوم منهم أمنا عائشة، ولم يرد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فعله.

سيدنا عثمان زاد الأذان الثاني للجمعة لما رأى اتساع المدينة في عهده.

استخلف سيدنا علي بمسجد الكوفة من يصلي بالكبار والضعفة، وصلى هو في الخلاء ببقية الناس.

وكان رضي الله عنه إذا خرج ‌إلى الفجر نادى: أيها الناس، الصلاة الصلاة، ومعه درته يوقظ الناس.

والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أمورًا من الصحابة ليس عليها دليل خاص قبل إقراره لها، وإنما صارت سُنَّة بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك:

ما رواه ابن عمر قال: صلى بنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده، فقال: ربنا لك الحمد حمدًا ‌كثيرا ‌طيبا ‌مباركا ‌فيه، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من ذا المتكلم بهذه؟ قالها ثلاث مرات، قال الرجل: أنا يا نبي الله، قال: فوالذي بعثني بالحق، لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرون أيهم يكتبها لك، أو من يرفعها لك. وطرق الحديث وشواهده ومتابعاته تدل على أن هذ الدعاء قاله الرجل من خاطره.

دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا، فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة، إني دخلت الجنة البارحة، فسمعت خشخشتك أمامي، فأتيت على قصر من ذهب مربع، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد، قلت: فأنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالو: لرجل من العرب، قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش، قلت: فأنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب"، فقال بلال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بهذا". وأيضا طرق الحديث تدل على أن فعل بلال لم يسبقه إرشاد بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.

ركعتا الشهادة التي يصليها المقدم للقتل صبرًا، لم يرد بها حديث خاص، وقد فعلها خبيب بن عدي. وفي صحيح البخاري: فكان ‌خبيب هو ‌سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرًا.

ورقى بعض الصحابة سيد قوم لُدِغَ بفاتحة الكتاب، فجعلوا له ولمن معه شاة، وقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ما أدراك ‌أنها ‌رقية؟ خذوها واضربوا لي فيها بسهم".

بل نجد أن كبار الأئمة فعل أمورًا ليس عليها دليل حاص مندرجة تحت أدلة عامة، من ذلك مثلا أن الإمام البخاري كان لا يكتب حديثًا في الجامع الصحيح إلا توضأ وصلى ركعتين، والإمام مالك كان يسير في المدينة حافيًا أدبا مع رسول الله، وقال مُطَرِّف: وكان مالك إذا أتاه الناس [طلبة العلم] خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل [الفقه]؟

فإن قالوا: المسائل. خرج إليهم، فأتاهم، وإن قالوا: الحديث، قال لهم: اجلسوا، ودخل مغتسله، ‌فاغتسل، ‌وتطيب، ‌ولبس ‌ثيابًا ‌جددًا [غير التي عليه]، ولبس ساجه [الطيلسان ثوب يشبه الشال توضع على الكتفين]، وتعمم، ووضع على رأسه طويلة، وتلقى له المنصة، فيخرج إليهم وقد لبس وتطيّب، وعليه الخشوع، ويوضع عود فلا يزال يُبَخّر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونظرة في كتاب (التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي) للشيخ عطية محمد سالم - وهو سلفي سعودي من أصل مصري - تعلم أن الأئمة قبلوا البدعة الحسنة المندرجة تحت دليل عام، وإلا فأين الدليل الخاص مثلا أن أهل مكة كانوا يطوفون سبعة أشواط في كل ترويحة فزاد أهل المدينة التراويح إلى ستة وثلاثين (وهو المعتمد من مذهب مالك)، وأين الدليل الخاص على دعاء ختم القرآن في الصلاة؟

وأختم فأقول: إن جميع مذاهب المسلمين قبلت "البدعة الحسنة" المندرجة تحت دليل عام عمليًّا، وهناك من المذاهب من توسع في ذلك ومنهم من ضيق، ومن وجهة نظري التي قد تكون خاطئة أن من أشد المذاهب في مسألة البدعة ليس الحنابلة - إلا ابن تيمية ومدرسته ثم المدرسة الوهابية - بل السادة المالكية.

بقي أمر: ألا يندرج الاحتفال "المجرد" بالمولد النبوي تحت أدلة عامة كثيرة؟! وأقصى ما يستطيعه المانع أنه أمر خلافي، ومثله لا يجوز الإنكار فيه، بله التشدد في الإنكار بألفاظ أنه بدعة ضلالة وأنه ليس سبيل المؤمنين وأنه من المنكرات.... إلخ؟

الإمام ابن كثير مثلا في ترجمة صَاحِبِ إِرْبِلَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، أَبي سَعِيدٍ كُوكُبُرِي، يذكر من فضائل الرجل وصدقاته وعدله وينقل عن سبط ابن الجوزي احتفاله بالمولد ويصف السماط الذي كان يفرش يوم المولد وشكل الاحتفال ولا ينكر ذلك بل يمره مرور الكرام. بل ابن تيمية وإن عد الأمر بدعة يقول: فتعظيم ‌المولد، واتخاذه موسمًا، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه ‌أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين