خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر -9-

تحدث المؤلف عن النظرة الشوهاء إلى الصلاح، وإلى خطورة الالتفات إلى النواهي دون الأوامر، ويتابع حديثه عن ظاهرة خلقية موروثة وهي السلبية والفردية التي وجدت في المجتمع المسلم.

 

الظاهرة الثانية: في الأخلاق الموروثة عن عصور الانحطاط هي شيوع خلق السلبية والفردية، ذلك أن التصوف المنحرف (ونعني به الإغراق في جانب من العبادة، تصوراً وكيفاً وكماً ـ بعيداً عن النهج الإسلامي الأصيل الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه) قد نشأ وترعرع بتأثير ردِّ الفعل لمجتمعٍ مترف، كثرت فيه صور الفساد من ناحية، وبتأثير الاحتكام بفلسفات متطرفة غريبة عن الإسلام من ناحية ثانية، هذا التصوُّف المنحرف كوَّن مدرسة متميزة بخصائص شتى، وقد أسرفت هذه المدرسة في الحض على الالتفات إلى النفس والعبادة والذكر والزهد في الدنيا، كما أسرفت في تصوير الاستبداد والظلم والاستغلال على أنه مجرد بلاء من الله جزاء فساد الجماهير وبُعدها عن الدين، وأنَّ العلاج الناجح هو تزكية النفس والعودة إلى الله، وقد أفرزت هذه المدرسة ثلاث فئات في المجتمع المسلم:

أ ـ فئة قليلة طلَّقت الدنيا كلها، وهربت من الدنيا كلها، ودخلت جحوراً ضيقة أسموها خوانق وربط وتكايا، وكان وراء هذا الهروب إما زهد أخرق زينَّه التصور الخاطئ والوهم الباطل، وإما زهد كاذب فرضه العجز وعدم العزم، وإما زهد منافق طامع في الباطن وزاهد في الظاهر، وقد حملت هذه الفئة القليلة خصائص المدرسة الخلقية والعقلية في أوضح صورها وأشدها حدة سواء في تحكيم الهوى أو الوجْد أو الذوق مع أقل قدر من العقل أو بدون عقل أو في هوس الكشف (أي: كشف حجب الغيب) والإتيان بالكرامات (أي: الخارقة لسنن الله وما اعتاده الناس) أو في الانصياع والاستسلام الكامل للشيخ حيث المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله.

ب ـ فئة كبيرة شملت معظم الناس، اعتقدت أن الزهد هو الكمال وهو المثل الأعلى، إنها اعتقدت في الزهد وعجزت عن ممارسته فظلت ت شعر بالنقيصة لعجزها عن بلوغ الكمال، لم تطلق الدنيا ولم تهرب إلى التكايا ولكنها مارست الحياة وهي تحمل لا شعورياً احتقاراً للحياة، أي أنها لم تمارس الحياة كأكمل ما تكون الحياة وأجمل ما تكون الحياة، ممارسة تعمير شامل وإبداع كامل، كما أراد الله حيث قال: [وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] {هود:61}.

مارست الحياة على استحياء، والاستحياء لم ينف الطمع، ولكنه نفى الابداع في جميع المجالات، ثم هربت هذه الفئة من جهاد المجتمع إلى شيءٍ قليل من جهاد النفس وشيء كبير من الانكفاء على الحياة الخاصَّة من أهل وأولاد ومال، وتعايشت مع أوضاع المجتمع بما فيه من استبداد واستغلال وفساد، دونما كلمة اعتراض أو إنكار، ودونما جهد جاد في الإصلاح.

وإذا كانت الفئة الأولى قد حملت خصائص تلك المدرسة المنحرفة في أوضح صورها وأشدها حدّة، فلم تعدم الفئة الثانية من رشحات تلك الخصائص سواء في الرفع من شأن القلب مقابل التهوين من شأن العقل (والمؤمن دليله قلبه لا عقله) أو في الاعتقاد بالكرامات بصورة مسرفة، أو في اللجوء إلى الأولياء سواء في حياتهم أو بعد مماتهم مع الاستعداد العام لتقبل الخرافات عن دور الجنّ والعفاريت والخضوع للمشعوذين والدجالين.

ج ـ فئة قليلة خدعت نفسها أو خدعت الناس ببعض أوراد الذكر وصحبة الشيخ، ومالأت أصحاب السلطان والمستبدّين الظالمين المستغلين، وكانت أبواق دعاية لهم بين تسويغ لأعمالهم الفاضحة وبين ترويج وتضخيم لأعمال جزئية ظاهرها صالح خير كبناء مسجد.

وهكذا تركت الصوفية المنحرفة بصماتها واضحةً على عامَّة الناس وكل الطبقات تقريباً ومن لم يتتلمذ على شيوخها فقد صاحب تلاميذهم (في الأسرة أو في العمل أو في الجوار...) وكان تلاميذهم من جميع الطبقات: العلماء، وطلبة العلم، والحكام، وحاشية الحكام، والتجار، والصنّاع والفلاحون.. وكان السَّمت العام الذي حمله عامة الناس هو السلبية إزاء الحياة بدرجات متفاوته، والسلبية الكاملة إزاء ما يدور في المجتمع، ولا بأس بأقدار من النفاق إذا لم تكف السلبية في توفير السلامة والعافية.

قد يقال: إن الإنسان في عامَّة الأحوال ضعيف وقابل للخضوع بحاجاته والعيش في حدود أسرته، ولا يحتاج إلى معلم في هذا المجال، قد يكون هذا صحيحاً، ولكن الأمر الخطر هنا هو إضفاء صبغة دينية على هذا الضعف، أي تسويغه بمفاهيم الدين بدلاً من أن يكون الدين عاملاً في السموِّ بالإنسان فيحمل لواء التغيير والإصلاح للمجتمع، وليقول: (لا) بكل فيه، و يموت شهيداً في سبيل الله، كان ذلك دور الصوفية المنحرفة حتى كاد يموت ضمير الإنسان الاجتماعي بل ضمير الأمة كلها،  كادت الأمة تعيش عيش السائمة لا يهمها غير المرعى ولو كان أحط مرعى.

ويقول مالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلام ص 32: (...حين يصبح الإيمان إيماناً جذبياً دون إشعاع، أعني نزعة فردية، فإن رسالته التاريخية تنتهي على الأرض، إذ يصبح عاجزاً عن دفع الحضارة وتحريكها، إنه يصبح إيمان رهبان يقطعون صِلاتَهُم بالحياة، ويتخلون عن واجباتهم ومسؤولياتهم كأولئك الذين لجأوا إلى صوامع المرابطين منذ عهد ابن خلدون.

وهكذا غلبت السلبية على الإنسان المسلم المعاصر مشفوعة بأقدار من النفاق تزيد وتنقص، فإذا كان محيط المسلم المعاصر متزمّتاً متشدّداً مغلقاً سايره دونما اقتناع أحياناً، وربما لم يكتف بالمسايرة، بل دافع ونافق.

 وإذا كان محيط المسلم المعاصر قد قطع شوطاً في التقليد الأعمى للغرب سايره أيضاً دونما اقتناع أحياناً، وربما لم يكتف بالمسايرة بل دافع ونافق.

 يغلب على المسلم المسايرة وعدم الاعتراض حتى لو رأى ما يستحق الاعتراض، وذلك نتيجة التحذير الموروث للإيجابية النشطة، وليست السلبية قاصرة على مجال السلوك بل تمتد إلى التفكير والنظر والبحث، فقليلاً ما يُعمل الفرد عقله، ويُكدّ ذهنه في دراسة مشكلة ما وَتَتَبُّع قضية من القضايا.

إذن هناك إرث طويل المدى في مجال الزهد والاحتقار (الخفي) للحياة، وفي مجال ضعف اليقظة العقلية وفي مجال ضعف المروءة والشجاعة الأدبية إرث يحمل المسحة الدينية (ظلماً وبغياً على الدين).

تنظر الحلقة الثامنة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين