خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر - 8-

 

تحدث المؤلف رحمه الله تعالى في الحلقات السابقة عن تشويه المثالية للأخلاق، والأسر التاريخي للأخلاق، ويتابع حديثه عن ظاهرتين من الأزمات الخلقية الموروثة وهما: النظرة الشوهاء إلى الصلاح، وشيوع خلق السلبية والفردية في التصوف المنحرف.

 

أزمات خلقية موروثة  :

وسنقتصر هنا على عرض ظاهرتين بارزتين توضِّحان أثر عصور الانحطاط الطويلة:

الظاهرة الأولى: هي تلك النظرة الشوهاء إلى (الصلاح) فالمرء الصالح هو من لا يزني ولا يسرق ولا يشرب الخمر ولا يقامر... وأصبحنا كأننا في غفلة كاملة عن أخلاق الحياة الفاضلة الراقية... وكأنّ الفضيلة والرقي هو مجرَّد اجتناب تلك المرحمات، وكأنَّ ما وراء تلك المحرَّمات من أخلاق كالجِد واليقظة والنظام والتعاون، لا تساوي شيئاً! لماذا؟ لأنها أمور يمارسها المؤمن والكافر والطائع والفاسق إذن ليست هي الأخلاق التي تميز المؤمن والتي ينبغي أن نحرص عليها ونقيس الرجال بها. وإلا تَسَاوى الرجال مؤمنهم وكافرهم طائعهم وفاسقهم، بل ربما تقَّدم الكافرون والفاسقون لإتقانهم ممارسة تلك الأخلاق الدنيوية الماديَّة وقد نُردد [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] {الرُّوم:7} ونعزِّي أنفسنا قائلين: إذا كان لهم الدنيا فلنا الآخرة.

إذا رأينا الكفار والفساق قد صلحت دنياهم وتقدَّموا، وفسدت دنيانا وتخلفنا قلنا: إنما تخلفنا وتأخَّرنا لأننا وقعنا في المعاصي وارتكبنا المحرمَّات ولا سبيل للنهوض والتقدُّم بغير الرجوع إلى الله وحظيرة الدين أي بتجنُّب المحرمات.

 السبيل القويم هو إغلاق الحانات ودور السينما والملاهي والقمار ومنع الرقص والغناء عندها سوف ينصرنا الله، لأننا نصرنا دينه وأتممنا شرعه! وكأنَّ دين الله هو هذه الكبائر الثلاث: الزنا والخمر والقمار، وكأن شرع الله هو تحريم الثلاث الموبقات فحسب، وهكذا نظل نفرح بتلك الأخلاق السلبية، بل نتلهى بها ونحسب أنفسنا نقاوم الشيطان الوسواس الخناس، وأكثر من ذلك أننا نرفع أقدار الرجال بل نضعهم في رتبة تشبه التقديس، إذا هم زهدوا في هذه الدنيا واعتزلوا الحياة وحفظوا بطونهم وفروجهم من الحرام.

ونزيدهم رفعة إذا نقلوا عنهم أنهم لم يكتفوا بتجنب المحرمات بل ترفعوا عن تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام، وهكذا اختلَّت موازين الأخلاق عندنا فرجحت كفة السلبيات وشالت كفة الايجابيات.

وقد يقول قائل: أنت تهوِّن من أمر هذه المحرمات. وأرد عليه: أشنع من أمر الغفلة عن دين الله، وأفضح من يكاد يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ودين الله كلٌّ لا يتجزأ، فالله الذي أنزل في كتابه: [إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ...] {المائدة:90}. هو الذي أنزل:[وَقُلِ اعْمَلُوا...] {التوبة:105}.

[وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ...] {التوبة:71}. 

[إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ] {الصَّف:4}. 

[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38}. 

[وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] {المائدة:8}.

ورسولُ الله الذي قال في سنته: (العين تزني..)، (الخمر أم الكبائر) هو الذي قال: (لا يكن أحدكم إمعة...)، ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)... (سيد الشهداء حمزة...).

إنَّ الالتفات إلى النواهي دون الأوامر، قد يسوغه أنَّ النواهي محرمات، وعقوبتها شديدة، والعذاب يرد دائماً للعاصين، والمفهوم المتبادر للمعصية هو ارتكاب المحرَّمات، كما يسوغه النظرة الشائعة للدين على أنه مجموعة قيود ومجموعة محرمات، أي أن مهمة الدين هي التحريم ليكف الناس على الانطلاق والانفلات والتجاوز.

القرآن يقرر: [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ...] {الأنعام:151}. والحديث النبوي الشريف: (ألا إن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في أرضه محارمه...) رواه البخاري، فكأنما جاء الدين ليحمي هذا الحمى، أي: ليقرر ويرسخ خطر هذه المحارم كما يقرِّر أن من ترك المحارم فقد نجا.

وهذه النظرة الشائعة هي نظرة ساذجة للمحارم، وهي أيضاً نظرة منحرفة، فالنظرة الصحيحة العميقة تكشف أنَّ كل أمر أمرنا به وقصرنا فيه أو تخلينا عنه سنحاسب عليه، أي: يصبح التقصير أو التخلِّي التام عن هذا الفعل الصالح من المحرَّمات على أن الدين حين يقرِّر ويرسخ هذه المحارم الزنى والخمر والميسر، إنما يقرِّر الحد الأدنى من الاستقامة الفردية كما يقرِّر ضوابط أوليَّة لاستقامة الحياة، وطبعاً بناء الأمم له وسائل غير مجرَّد استقامة الأفراد على الحد الأدنى كما أن عامل بناء الأمم غير مجرد الضوابط الأوليَّة.

وإذا تأملنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نهيتكم عن أمر فانتهوا) أي: أمراً قاطعاً هو الامتناع والكل تقريباً يستطيع الامتناع، ثم إذا تأملنا قوله: (وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) أي: حسب القدرة والقدرات تتفاوت من أقصى درجات القوة إلى أقصى درجات الضعف.

هنا مجال الخيار ومجال الترقيِّ، وحديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (مَنْ رأى منكم منكراً فَلْيغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) يعذر الإنسان الضعيف إذا ركن إلى الضعف، ويصفه بضعف الإيمان، لكن أن يصبح الضعف سَمْتاً عاماً للأمة، أي أن تعيش على أضعف الإيمان فهذا يعني أضعف الأمم. أي: في حالة من الجمود والتأخر والانحطاط.

وهكذا نرى كيف يحدث الانحراف في الدين وفي غير الدين نتيجة عدم شمول النظرة ورؤية الصورة من جميع جوانبها، إنه ينبغي أن نأخذ الدين ككل بجميع جوانبه وجميع أوامره ونواهيه، أما أخذ النواهي دون الأوامر فيؤدي إلى اختلال في كيان الإنسان فضلاً عن اختلال كيان الأمة.

الحلقة السابعة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين