خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر -7-

تحدث المؤلف عن تشوية المثالية للأخلاق، في صور مثالية بعيدة عن أرض الواقع وحياة الناس، وذكر عدة أمثلة على ذلك في العفة الإنسانية، والزهد الإنساني، ويتابع الأستاذ عبد الحليم  أبو شقة حديثه عن مدى تأثير الصور التطبيقية التاريخية على القيم الخلقية الرفيعة.

الأسر التاريخي للأخلاق:

ونعرض هنا لمثالين اثنين يوضحان مدى تأثير الصور التطبيقية التاريخية على القيم الخلقية الرفيعة، حتى لتكبلها بأغلال ثقيلة تعوقها عن توجيه الحياة المتطورة وجهة الخير دائماً:

المثال الأول:

التسامح مع أهل الذَّمة: في ظل ظروف الفتوح وما تلاها كان خلق التسامح يأخذ صوراً محدودة، مثل عدم الإكراه على الدين الجديد، ومثل عدم العدوان على ممتلكاتهم وأعراضهم، وهذه الصور لم تمنع: 

* التمايز في الزي والسكن.

* عدم استعمالهم في وظائف الدولة.

* الحذر والشك وما يتبعهما من بعض إجراءات التضييق.

كل هذا كان له مسوِّغاته التاريخية حيث كانت العلاقة الأساسية هي علاقة بين غازٍ ومغزو.

وعند زوال الظروف الموجبة بدأ الحكام يخففون هذه الضغوط ويستعملونهم في الوظائف الكبيرة، ويأمنون لهم، ولكن ظلَّ فريق من الناس ينكر الصور المستحدثة ويتمسك بالصور التطبيقية القديمة على أنها الوضع الأمثل، الوضع الشرعي الصحيح وأن المستحدث إنما هو ابتداع وخضوع للأهواء.

فإذا بلغنا عصرنا الحاضر وجدنا التسامح قد اكتسب صوراً جديدة: مشاركة في التعليم، مشاركة في الجيش، مشاركة في المجالس النيابية، مشاركة في الضرائب، ويظل فريق من المسلمين لايرى في هذه الصور تسامحاً دينياً أصيلاً، ويحسب أن كل ذلك مخالفة لتعاليم الدين، وانهزامية أمام المفاهيم الأوروبية الغازية: لماذا؟ هل لأن هذه الصور تتنافى مع أخلاق الإسلام الداعية إلى التسامح بل إلى البر والإقساط لقوله تعالى:[لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الممتحنة:8}. أم لأن هذه الصور تغاير تلك الصور التي طبقها السلف في العهود الأولى؟

المثال الثاني:

العفة: ارتبطت العفة قديماً بقرار المرأة في بيتها فلا تغادره إلا للضرورة القصوى... حتى قيل في وصف المرأة الصالحة: أن لها ثلاث خرجات في حياتها كلها: مرة من رحم أمها إلى الدنيا، ومرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والثالثة من بيت زوجها إلى القبر.

 إذا أحصينا احتياجات المرأة خارج بيتها، نجدها تتصل بالمجالات الآتية: الصلاة ـ التعليم - التطبيب - زيارة الأقارب والأصدقاء - الترويح والنزهة - شراء الحاجيات من السوق.

- فالصلاة منعت منها المرأة بصورة قاطعة بحجة أمن الفتة (حتى صلاة العيدين حيث عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء جميعاً بالخروج).

- والتعليم اقتصر على الرجال دون النساء، وذلك بتأثير حرمانها من غشيان المسجد، وهو مكان التعليم فضلاً عن النظر إلى التعليم كأمر خاص بالرجال حيث هم الذين يخوضون مجالات الحياة المختلفة، وأما القدر الضئيل جداً الذي تحتاجه المرأة من أمور دينها فتتعلمه من أبيها أو ممَّن يتولى أمرها من الرجال ولا ننس أنه شاع الحديث الموضوع: (لا تعلموهنَّ الكتابة)..

ـ أما التطبب الذي يمارسه رجل متخصص، فكان محدوداً جداً حيث الغالب الأعم هو استعمال الوصفات الشعبية وعند الضرورة يأتي الطبيب إلى البيت.

- وأما الزيارات فكانت محدودة أيضاً، نتيجة سكن العائلة الكبيرة في بيت واحد أو في حي واحد، فضلاً عن صعوبة المواصلات لزيارة من يسكن بعيداً عن الحي.

- وكذلك الترويح والنزهة كانت محدودة جداً، وتنحصر تقريباً في النزهات الخلوية التي كانت تحدث مرة أو مرتين في العام... مع استمرار إنكار العلماء ما في النزهات من تبرج وخلع برقع الحياء مما كان يدعو الصالحين إلى اجتناب النزهات كليَّة.

- وأخيراً شراء الحاجيات من السوق، وهذه كان يقوم بها عادة الرجال من الأقارب أو العبيد والإماء أحياناً، وكان يتحرج الرجل من أن يظهر في الطريق العام يسير بجوار امرأة سواء كانت زوجته أو ابنته أو أخته، فكان يسبقها بخطوات حتى لا يحس أحد بأن تلك المرأة تسير في صحبته، وفرض العرف أن تخرج النساء في غبش الليل حتى يكون أستر لهن.

خلاصة الأمر: أنَّ عفَّة المرأة ارتبطت قديماً بقرارها في بيتها، فظلت هذه الصورة عالقة في ذهن المسلم المعاصر، رغم أن ظروف الحياة المعاصرة اقتضت تعليم المرأة كما اقتضت أن تعمل المرأة في بعض مجالات الحياة خاصة التطبيب والتمريض والتعليم فضلاً عن حاجتها للعلاج والتردد على عيادات الأطباء أو المستشفيات، وحاجتها إلى الزيارات وإلى الترويح النظيف وشراء الحاجيات من السوق كل هذا يؤدي إلى كثرة خروج المرأة المسلمة من بيتها...

إلا أن المسلم المعاصر نتيجة ارتباط خلق العفَّة بالصورة التطبيقية التاريخية نراه لا يزال لا ينظر بارتياح إلى خروج المرأة ويعتبر ذلك جارحاً لعفتها ويتمنَّى لو تعود الحياة سيرتها القديمة حتى تقرّ المرأة في بيتها، كما نراه يعتبر ركوب المرأة دراجة أو قيادتها سيارة وإن تزيَّت بزيٍّ سابغ جارحاً لعفتها. ذلك أننا ورثنا فيما ورثنا ركوب المرأة في هودج، ولم يشفع في كسر هذا الإرث مع الأسف ما كان عليه النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركوب الجمال والخيل والحمير إلى جانب الهودج (أي مواصلات ذلك العصر) وكان رسول الله يردف أحياناً زوجه خلفه (من حديث رواه الشيخان) بل أكثر من ذلك أناخ يوماً راحلته ودعا أسماء بنت أبي بكر زوج الزبير رضي الله عنهما ليحملها خلفه حين رآها تسير مرهقة في الطريق (من حديث رواه الشيخان). 

تنظر الحلقة السادسة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين