خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر -6-

 

في الحلقة السابقة أجاب المؤلف عن سبب تفوُّق الحضارة الحديثة مع وجود الانحرافات الخلقية، وبيَّن أهمية أخلاق القوة التي أخذت بها الحضارة المعاصرة، واشار إلى خطورة فقدان الأخلاق الأساسية الإنسانية.

ونتابع الحديث عن أزمة الأخلاق في تشويه المثالية للأخلاق

تشويه المثالية للأخلاق:

كما يكون تشويه الخِلْقة بعد أن سوَّاها الله في أحسن تقويم، ويزعم المشِّوهون أنهم إنما يقصدون التجميل والتحسين كذلك يقع التشويه لمكارم الأخلاق بعد أن أتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزعم المشوِّهون أنهم يقصدون السمو والكمال.

إنَّ تشويه المثالية ليس بعدم التطبيق فعدم التطبيق عجز، إنما التشويه هنا يعني تحريف الخلق عن أصله الإنساني الحياتي الواقعي (وهو الأصل الشرعي) والتهويم به في صور خيالية مثالية، ترمي به بعيداً عن أرض الواقع وعن حياة الناس المادية الفاضلة مع الزعم أن المقصود بهذا الابعاد هو بلوغ أقصى درجات السمو وأقصى درجات الكمال.

ومن الأمثلة على ذلك:

أولاً: العفة الإنسانية ـ في مجال الجنس ـ تعني ممارسة الجنس أكمل ممارسة وأحلاها عن طريق طيِّب مشروع.

أما العفة المثالية: فعني احتقار الجنس أو التقليل من شأنه والتضييق عليه.

والأمر المؤسف أننا نجد بعض الكتاب حين يعرضون لأمر الزواج في الإسلام، يلحون على أن القصد منه هو النسل وحفظ النوع، أما أن يكون للاستمتاع فهو أمر شبه منكر أو غريب على خلق المسلم، وينسون حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: تزوجت؟ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تزوجت؟ فقلت: تزوجت ثيباً، فقال: (ما لك وللعذارى ولعابها، وفي رواية أخر: (هلا جارية تلاعبها وتلاعبك). رواه الشيخان

كذلك نرى كثيراً من الكتاب حين يعرضون لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم يلحُّون على الدواعي السياسية والاجتماعية والتشريعيَّة، ويكادون يستبعدون قصد الاستمتاع وكأن لا وجود له، بل كأنه أمر مشين لا يليق بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم رغم الدلائل الكثيرة التي تشير إلى حبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء مثل: 

* قوله تعالى:[لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ] {الأحزاب:52}.

* حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرجال ؟ قال: أبوها، قلت: ثم من ؟ قال: عمر بن الخطاب... )رواه الشيخان.

* وفي حديث أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة. (رواه الشيخان) وزاد مسلم: بغُسل واحد.

* وحديث عائشة رضي الله عنها: كنت أغار على اللاتي وَهَبْنَ أنفسهنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟

فلما أنزل الله تعالى:[تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ] {الأحزاب:51}.قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. (رواه الشيخان).

خلاصة الأمر: إن شئنا خلاص خلق العفة من تشوية (المثالية) فعلينا تكريم الجنس للاستمتاع بالحياة، ولحفظ الحياة، وصيانة الجنس من الانحسار، ومن الابتذال سواء، وأنعم بها من آداب الشريعة السمحاء.

ثانياً: الزهد الإنساني: يعني عدم الطمع والأخذ من الدنيا حسب الحاجة حاجة الفرد وحاجة الجماعة وحاجة تعمير الدنيا والاستخلاف في الأرض.

أما الزهد المثالي فيعني احتقار الحياة واجتناب متعها.

والله سبحانه وتعالى يقول: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ] {الأعراف:32}. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ هذا المال حلوة من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو...) رواه الشيخان.

ولنلق نظرة على آثار كلٍّ من الزهدين:

الزهد الإنساني الزهد المثالي

السعي للكسب مع الجدّ في السعي يتبعه بذل في سبيل الله 

(لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هَلَكته في الحق). عدم السعي للكسب أو عدم الجد في السعي يتبعه عجز عن البذل في سبيل الله.

الإجمال في الطلب مع الاحتفاظ بالسخاء في البذل

(فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه) الإهمال في الطلب والعجز عن البذل.

الرضا بما قسم الله بعد السعي الجاد مع ضرورة البذل.

(على كل مسلم صدقة، قالوا: فإن لم يجد قال: فليعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدَّق) قال ابن مسعود: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل (أي يحمل بعضنا لبعض بالأجرة) والأحاديث جميعها رواها الشيخان. الرضا بالعدم دون سعي والعجز عن البذل.

ثالثاً: التعبُّد الإنساني: يعني لحظات من التعبد بالشعائر مع دوام التعبد بممارسة الحياة ممارسة جادة خيرة تبتغي رضاء الله.

أما التعبد المثالي فيعني التفرغ الكامل ـ أو شبه الكامل ـ للشعائر وانظر قول الرسول صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين تقالوا عبادته: (إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )رواه الشيخان.

وأحسب أنه يمكننا أن ضيف من باب المماثلة: 

(وأقود الجيوش، وأسوس الدولة، وأقضي بين الناس، و... و... و...)

ينظر الحلقة الخامسة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين