خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر -5-

 

 

بين أخلاق النهوض وأخلاق الجمود:

قد يتساءل البعض: كيف قامت الحضارة الحديثة وتفوَّقت وسَادَت، مع وجود الانحرافات الخلقية مثل تلك المتصلة بالجنس وتناول الخمر والقمار... لكن إذا تأملنا الأخلاق وجدناها عبارة عن مجموعة متكاملة من القيم تغطِّي جوانب الحياة كلها فكرية ـ سلوكية ـ شخصية ـ اجتماعية. والذي يحدث عادة في الأمم أن تبرز بعض القيم وتسود وتضعف قيم أخرى، والأمة تنهض وتتقدَّم بغلبة تأثير مجموعة معينة من القيم، مثل: الثقة بالنفس، والطموح، والجد، والإتقان، واليقظة، والنظام، والبسالة والاستهانة بالموت، فإذا برزت هذه القيم وسادت امتد دورها إلى التخفيف من ظهور أثر بعض الانحرافات  الخلقية، كالزنا والخمر والقمار، ولكن مع مضيِّ الزمن ومع تدخل بعض العوامل الخارجية كظروف حرب أو ترف أو فقر شديد أو فراغ روحي، قد يقع عند ذلك إسراف في (الخمر  والميسر والزنا) مما يحطم من أخلاق النهوض ويهدِّد تماسك المجتمع ويضعف من قوته.

إن أخلاق القوة كالعزم والشجاعة والمغامرة والطموح والنظام والصبر والغيرية يقابلها أخلاق الضعف كالسلبية والجبن والخوف والتواكل والرضى بالدون والأنانية، وإن أخلاق الحق والخير مثل الإخلاص لله والتعفف عن المحرمات من زنا وخمر وميسر... والتوبة والتواضع والحياء والعدل مع الصديق والعدو يقابلها أخلاق الباطل والشر كالتبذُّل وشر ب الخمر ولعب الميسر والزنا والتهالك على الدنيا والظلم لغير الصديق.

وفي مجال نهوض الأمم وتقدمها المادي أو ضعفها وانحلالها لا يضير مع أخلاق القوة وجود بعض أخلاق الباطل والشر كما أنه في مجال انحلال الأمة وسقوطها لا يفيد مع أخلاق الضعف وجود أخلاق الحق والخير ليكون نهوض وتقدم.

إن أخلاق الحق والخير تضاف إلى القوة فتزينها، كما أنَّ أخلاق الباطل والشر تضاف إلى القوة فتقبحها، ولكن أخلاق الحق والخير إذا أضيفت إلى الضعف تميع ويضيع أثرها وتصبح باهتة أي أنها تخفق في جبر الضعف بينما ينجح الضعف في تمييع الحق والخير بل محقهما أحياناً.

وقد تعرض الأستاذ أبو الأعلى المودودي لهذا الموضوع في كتابه القيم: (الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامي) ة: ونحن ننقل هنا مع الاختصار فقرات من ص 20-21: (إن هناك أخلاقا أساسية إنسانية لا يمكن أن ينجح الإنسان في هذا العالم ـ سواء أكان مؤمناً أو كافراً أو صالحاً أو طالحاً ـ إلا إذا تحلَّى بها، مثل قوة الإرادة والصبر والثبات والهمة والشدّة والبأس والولع بالغاية والاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيلها، والحزم والحيطة وإدراك العواقب وحب النظام، والإحساس بالمسؤولية والامتلاك للعواطف والرغبات النفسيَّة...)، (... على أنَّ هذه الثروة لا تنقلب إلى قوة جماعية عظيمة محكمة فعَّالة في الأمر الواقع إلا إذا ساعدتها جملة من الصفات الخلقي،ة مثل الاتفاق على غاية مشتركة كانت أحبّ إليهم من أغراضهم الشخصية وكان زعماؤهم عندهم الإخلاص وحُسن التدبير...)

ثم ذكر أن الإسلام مع تقديره تلك الأخلاق الأساسية حضَّ على مجموعة من الأخلاق أطلق عليها الأستاذ الفاضل: الأخلاق الإسلامية، وقد بيَّن أن لهذه المجموعة دوراً خاصاً وهو:

1 ـ توجيه الأخلاق الأساسية الإنسانية وجهة الخير [والاستعمار الغربي الحديث مثال جيد يوضح كيف يمكن توجيه الأخلاق الأساسية وجهة الشر]. 

2 – توطيد الأخلاق الأساسية وتوسيع مجال تطبيقها.

3 ـ الأخلاق الأساسية هي الطبقة الأولى من البناء، ثم يشيد الإسلام عليها طبقة ثانية من الأخلاق الفاضلة حتى ليرتقيَ بها الإنسان إلى درجات الشرف والكمال...والإسلام هنا ـ أي: في مجال الأخلاق الإسلامية ـ يُطهِّر قلب الإنسان من الأثَرَة والظلم والوقاحة والخلاعة وينمِّي في نفسه تقوى الله ويجعله جواداً ودوداً ناصحاً أميناً عادلاً صادقاً لخلائق الله تعالى جميعاً في كل حال كما يجعله فوق ذلك مفتاحاً للخير مغْلاقاً للشر في أرض الله كافة...)

ونكتفي بهذا القدر من كلام الأستاذ المودودي ـ وهو كلامٌ نفسيٌّ لنقول:

كأنَّ المسلمين اليوم لا يدركون من معنى الأخلاق إلا بعض تلك التي أُطلق عليها: (الأخلاق الإسلامية) وقد نسوا أنه إذا انعدمت الأخلاق الأساسية الإنسانية أو اضمحلت اضمحلالاً كبيراً فما الذي ستوجِّهه الأخلاق الإسلامية وجهة الخير؟!

أو ماذا يفيد أن توجه قوة هزيلة وجهْة الخير؟ ثم كيف توسِّع الأخلاق الإسلامية مجال تطبيق الأخلاق الأساسية، وهذه الأخيرة غير موجودة أصلاً!!

ثم كيف نبني الطبقة الثانية من البناء دون توفر الطبقة الأولى الأساسية؟ إلا إذا كنا نبني في الهواء أو على الرمال!

ينظر الحلقة الرابعة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين