خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر -13- والأخيرة

 

في هذه الحلقة الأخيرة يتحدث المؤلف عن ظاهرة خلقية في بعض الجماعات الإسلامية في جعل الفرد إمَّعة، تابعاً للجماعة في حزبية ضيقة، لا حقَّ له في النقد الذاتي.

ثالثاً: بين الاستقلالية الإيجابية وبين الإمعية:

ونقصد بالأمعية ما عبر عنه الحديث الشريف (لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا) رواه الترمذي وقال: حسن غريب.

إنَّ بعض التجمعات تقع أحياناً في خطأ جسيم إذ تنزع الفرد من المجتمع الكبير حيث يسود خلق الإمَّعية، أو حيث يسود الإمَّعات لا لتحرره تحريراً كاملاً من هذا الخلق المشين وتجعل منه إنساناً مستقل الإرادة له شخصيته المبدعة إنما هي تحرره تحريراً جزئياً فحسب.

إنَّ الجماعة تنجح في إثارة الفرد على الأوضاع الفاسدة في المجتمع الكبير، وتجعله متمرداً عليها آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، داعيةً إلى الخير، وفي نفس الوقت تضيق على حريته وإرادته وشخصيته داخل الجماعة،وكأنه لا حق له في النقد الذاتي أي لا يمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل الجماعة كما يمارسها خارجها، وقد تساعد صور التنظيم والتربية على أن يكون الفرد مع الإمَّعات، داخل الجماعة ومع المتمردين خارجها، وهكذا لا تخرِّج الجماعة في هذه الحالة دعاة مؤمنين إنما تخرِّج حزبيين نشيطين، لا تخرج لنا الشخصية التي تملك إيجابية ذاتية إنما تملك إيجابية موجهة من الخارج، موجهة بقوة ديناميكية الحركة ونشاطها وقيادتها... فإذا تعرَّضت هذه القوة للضعف أو للزوال ـ لأيِّ سببٍ عارض ـ ضعف تبعاً لذلك أو زالت ايجابية الفرد وعاد سلبياً، معنى ذلك: أن إيجابية الفرد الحزبي إيجابية موجهة مكاناً (أو مجالاً) إلى خارج الجماعة أو الحزب، وموجهة زماناً بفترة ارتباط الفرد بالحزب، وموجهة من حيث الدرجة بمستوى نشاط الحزب.

وإذا حدث (وهو أمر نادر الحدوث نتيجة التربية والممارسة الطويلة) أن توقف الفرد يعيد النظر في أمر من أمور الجماعة إما بسبب توقّد ذهن أو نفس أبية أو إثارة خارجية قوية، إذا حدث ذلك سرعان ما يشعر الفرد بسطوة الجماعة أو الحزب التي تفرض الاستسلام المطلق، ولا تقبل بحال مجرَّد الجدال حول مفهوم من مفاهيم الحزب أو حول أحد قادة الحزب، لأن ذلك يعني الإنكار للحقائق الثابتة، أو الاعتراض على المسلَّمات الراسخة، ومن تجرأ على ذلك فهو الانشقاق والخروج والعصيان، وما أقسى الشعور بالخروج والعصيان، وإذا تغلب العقل بمنطقه والنفس بكرامتها وَوَاصل الفرد النظر والبحث المستقل وأعلن اعتراضه... كان مصيره الطرد من جنَّة الحزب والعزلة عن أصدقائه ورفاقه الحميمين، والأدهى من ذلك هو دمغ خلاف الرأي بأبشع الصفات النفسية وعدم الاكتفاء بوضعه في إطار الخلاف الفكري إنما هو انهزامية وجُبن، وتردُّد وضعف عن مواصلة الجهاد،و رغبة في السيطرة وقد تصل التهم أحياناً إلى العمالة والخيانة.

ملاحظتان:

الملاحظة الأولى: ينبغي أن نسجِّل في نهاية هذا العرض حرص جماعة إسلامية كبيرة في باكستان على النجاة من ظاهرتين خطيرتين: أولاهما ظاهرة الإمَّعية حيث لا يكتفي بأن يكون النقد الذاتي روحاً سارية في الجماعة بل يوضع له  من النظم، ويخصص له من الوقت ما يجعله من صلب النظام العام، فهناك اجتماع شهري إجباري للأركان أي الأعضاء الأساسيين، خاص للنقد الذاتي هذا فضلاً عن ممارسة الشورى على نطاق واسع.

الظاهرة الثانية: التي حرصت الجماعة على الخلاص منها هي ظاهرة حمل السلاح (سواء بالقوة أو بالفعل) ولذلك نقلوا عن زعمائهم قولهم: (لقد وجهت إلى الجماعة طائفة كبيرة من الاتهامات إلا أنه لم يُوجَّه إليها تهمة إحراز الأسلحة أو استخدام القوة لقلب نظام الحكم، وذلك لأن الجماعة تجنَّبت كلياً كل ما يتصل بالسلاح والعنف على مدى تاريخها الطويل.

الملاحظة الثانية: إن هناك أمراً يثير الانتباه في موضوع الجماعة، وهو أن معظم الأمراض التي تعرضنا لها يمكن أن نلمحها ـ وبوضح شديد ـ عند الأحزاب العقائدية غير الإسلامية، وهذا مما يقتضي الاستعانة بدراسات علم الاجتماع في هذا المجال.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

تنظر الحلقة الثانية عشر هنا

المصدر: المسلم المعاصر ربيع الثاني 1395 العددان 1و2.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين