خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر -11-

تحدث المؤلف رحمه الله تعالى عن أثر الجماعات الإسلامية، ودواعي النقد الذاتي لها، وسيعرض هنا بعض الأمراض الخلقية التي ظهرت في هذه الجماعات المعاصرة.

أولاً: الغلو والتطرف، وله عدة مظاهر:

أ ـ تضخيم جانب من جوانب الإسلام حتى يصبح محور كل شيء. قد يكون هذا الجانب هو تصحيح العقيدة (حول الذات والصفات) أو العبادة أو بعض جوانب السلوك أو هو المفاهيم أو هو السياسة أو اللامذهبية أو المذهبية.

ب ـ مفاهيم الجماعة قد تصبح آلة حادة قاطعة وقوالب صارمة يقع بها الناس كل الناس والأحداث كل الأحداث، بدلاً من أن تكون مؤشرات ووسائل تعين على الفهم، وبدلاً من أن تكون اجتهادات قابلة للمناقشة، قابلة لإعادة النظر والتنقيح والتطوير لتواجه الواقع المتغير، ثم إن الفرد يحسب أن مفاهيم الجماعة قد استوعبت كل شيء، و بهضمه تلك المفاهيم أصبح في غنى كامل عن كل ما عداها، وكأن الجماعة وحدها اكتشفت أسرار الماضي والحاضر والمستقبل، وهي وحدها تملك (وصفات مدهشة) تستطيع بفضلها حلَّ جميع مشكلات العالم، وهذه (الوصفات) لا تقبل المناقشة، ومن هذا المنطلق يضفي الفرد العصمة أو ما يشبه العصمة على قيادة الجماعة كما يضفي الكمال أو ما يشبه الكمال على تصرُّفات الجماعة ومواقف الجماعة، ثم مزيداً من العصمة والتقديس للقادة إذا تعرضوا لنوع من الاضطهاد والتعذيب.

ج ـ  وأحياناً يكون التطرف بتقسيم العالم إلى معسكرين اثنين لا ثالث لهما، معسكر المؤمنين ويعني الجماعة التي ينضوي الفرد تحت لوائها، و معسكر الضالين أو الجاهلين ويعني بقية العالم، وقد يترتَّب على هذا التطرف في تقسيم العالم انخلاع أفراد الجماعة المتطرفين عن العالم الجاهلي، عالم اليوم بواقعه وقضاياه ومشكلاته، والتحليق بهم في عالم الأحلام، في الوهم الكبير، المجتمع المنتظر، ومن ثم يصبح الأفراد في عُزلة أو شبه عُزلة عن الناس والأحداث.

كما قد يترتَّب على هذا التقسيم ما يمكن أن نسميه: التطبيق الحزبي للأخلاق، ونقصد به تقليص ميدان عمل الأخلاق الإسلامية مثل [أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ] {المائدة:54}. [رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] {الفتح:29}.[ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] {البقرة:83}. [وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ] {الحجر:88}. (من فرَّج عن مؤمن كربة)، (ما زال جبريل يوصيني بالجار) كل هذه الأخلاق التي أمر بها الإسلام كدستور حياة بين المسلمين كل المسلمين (وَجُلُّ هذه الفضائل تشمل عامة الناس) قد تصبح لدى بعض أفراد التجمُّعات المعاصرة قاصرة على محيط جماعته الخاصَّة أو التجمُّع المحدود، أما عامة المسلمين فكأنهم قد اصبحوا خارج دائرة الإسلام وأخوة الإسلام، فحُجبت عنهم أخلاق الأخوة والمحبة والتعاون والنصرة، بل وربما  حُجبت عنهم أيضاً أخلاق الصدق والأمانة والوفاء، وبهذا قد يسقط بعض الأفراد دون شعور في أخلاق اليهود حيث قالوا: [لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ] {آل عمران:75}. 

وكما أنه يقع أحياناً تطبيق حزبي للأخلاق فقد يقع أحياناً أخرى نوع من التقدير الحزبي للأخلاق، فلا قيمة لخلق حسن، ولا تقدير لعمل كريم ما لم يحمل لافتة الإسلام أو الإسلامي، ولا قيمة لرجل فاضل ولا تقدير لإنسان كريم ما لم يحمل شارة التجمُّع الإسلامي العتيد، أي: أنه لا يوزن الناس ولا توزن الأعمال بمقدار ما تحققه من خير، وإنما بمقدار ارتباطها بالحزب أو بشعارات الحزب.

د ـ وأخيراً يرد تساؤل خطير؟! فبعد استعراض هذه الصور من الغلو والتطرف التي تصيب بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة أو بعض أفرادها، هل يمكن أن يذكرنا ذلك بالخوارج؟.

كان عند الخوارج محامد من الأخلاق كثيرة كالشجاعة الأدبية والحربية والصبر والثبات و الصدق، ولكن غياب بعض الأخلاق ذهب بالأخضر واليابس، وأهلك الحَرْث والنسل كما يقولون، بل إن فقدان خلق واحد وهو ما يمكن أن نسميه (الرفق في أخذ الأمور) أو (الورع في أمر الدماء) أو (الاعتدال في الحكم على الناس ) إنَّ فقدان هذا الخلق الواحد جرَّ مفاسد ملأت الأرض يوماً، وقد ساعد على انحراف الخوارج ما كانوا عليه من اجتهاد في العبادة من صلاة وصيام وقيام فاغتروا وتصوَّروا أنفسهم سيف الله المسلَّط على الشر والفساد في هذه الدنيا، وقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية... آيتهم رجل أسود... قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأتى بذلك الرجل فالتمس فأتى به حتى نظرت إليه على نعت النبي الذي نعته) رواه الشيخان.

كما جاء في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله فَلَأَنْ أخر من السماء أحب إليَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون في قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم..) رواه الشيخان.

ولكي يتضح جدوى التساؤل الخطير ينبغي التنبه إلى أنَّ الذي انحرف بالخوارج ـ ذاك الانحراف المحزن أيام خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ هو حملهم السيف، بينما بعض الجماعات المعاصرة ـ أو بعض عناصرها على وجه الدقة ـ والتي تحمل شيئاً من فكر الخوارج وشيئاً من أخلاقهم لم تحمل السيف بعد. لم تحمله بالفعل ـ اللهم في حالات نادرة أو شاذة أو فردية ـ لكنها تحمله بالقوة كما يقول المناطقة أي عندها الاستعداد والرغبة ولكنها تنتظر الفرصة.

تنظر الحلقة العاشرة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين