خَواطر حَول أزمة الخُلق المسلم المعاصر -10-

 

 

التجمعات الإسلامية المعاصرة وأزماتها الخلقية:

كلمة تمهيدية:

تردد الأمر طويلاً بيني وبين السيد رئيس التحرير عندما عرضت عليه هذا الموضوع، ذلك أن هناك دوافع تلحُّ عليَّ تدعوني للكتابة وأخرى تصدّ عنها، يدعوني للكتابة أني واحدٌ ممن عاش عمره منذ عقل متنقلاً بين أحضان بعض تلك الجماعات، وعلى درجات متفاوتة من الصِّلة ببعضها الآخر، وله أصدقاء حميمون ممن ينتسبون إليها، فواجب الوفاء والصدق مع رفاق الجهاد الطويل يقتضي أن أنصح لهم قبل النصح لغيرهم... فضلاً عن ذلك هو نوع من ممارسة النقد الذاتي لأني عشت هذه التجارب بين صفوف تلك الجماعات ووقعت في بعض الأخطاء منها الكبير ومنها الصغير، لذلك كله أراني مدعواً لنصرتها تلك النصرة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: يا رسول الله كيف ننصره إن كان ظالماً ؟ قال: أن ترده عن الظلم فذلك نصره).

إنَّ النصح عادة مرّ المذاق ولكن هو الدواء لابدَّ من تناوله رغم مرارته، إنما قد يخفف من ذلك أن الذي يقدمه صديق يريد الخير كل الخير لجماعات نذرت نفسها للإصلاح.

ومما يدعوني أيضاً للكتابة ذاك الدور العظيم الذي تقوم به تلك الجماعات في المجتمعات المسلمة المعاصرة فهي - رغم نقاط الضعف التي أسوقها في هذا المقال ـ تقوم بحمل لواء عزيز على كل مسلم غيور، لواء الإصلاح والتغيير على أساسٍ من الإسلام الحنيف.

أما ما يصدُّ عن الكتابة في هذا الموضوع فهي عدة مخاوف، أولها: أن يحملها البعض محمل التشهير والتجريح لتلك الجماعات، ثانيها: أن يستغلها بعض الخصوم في النَّيْل والكيد لتلك الجماعات، ثالثها: أن بعض الجماعات الإسلامية تلقى العنت والتضييق في كثير من الأقطار وقد تجد في مثل هذه الكتابة نوعاً من الطعن من صديق وهي في محنتها تنتظر منه المواساة والعون.

وخلال مناقشة تلك المخاوف أوضحت الآتي:

إنَّ مخافة أن يحمل الكلام محمل التشهير، أرجو أن تتلاشى إذا استحضر رفاق الجهاد أنَّ النصح واجب شرعي، وأن لا سبيل إلى هذا النصح بغير الكتابة لأن الجماعات الإسلامية القائمة تمتد عبر العالم العربي كله، فضلاً عن أن أمتنا تمتد من المحيط إلى المحيط، وفي كل يوم تنبعث جماعة من المسلمين راغبة في الإصلاح بصورة من الصور... وقد تتبع جماعة في ماليزيا نهج أو بعض نهج جماعة في سوريا مثلاً.

أما أن يستغل الخصوم ما أكتب للنَّيْل والكيد، فهذا بعيد أيضاً إذ أنا لن أكشف أمراً دفيناً في أعماق تلك الجماعات، إنما هي مظاهر عامة يمكن أن يلحظها كثيرون بل إن بعضها ليعلو على السطح لدرجة صارخة...

بقي موضوع العنت والاضطهاد الذي تلاقيه بعض الجماعات وهي تنتظر المواساة لا الطعن من صديق، والحقيقة أننا يجب أن ننتبه لمعنى دقيق في هذا الموضوع وهو أن الجماعات الإسلامية - وقد تصدَّت للعمل العام وأصبح لها  تلك الشخصية المعنوية - لم يعد أمر مواساتها يعني السكوت عن النقد الذاتي، فالنقد الذاتي حياةٌ للجماعات وتجديدٌ للحياة، خاصة وقد طال أمد التضييق والاضطهاد ولم يعد فترة محدودة يمكن أن يعمل لها حساب خاص، وأن تراعى رعاية خاصة، ثم ينبغي التفريق بين أسلوب مواساة الأفراد المضطهدين وبين أسلوب مواساة الجماعات حاملة اللواء، فالجماعات يمكن أن يكون مواساتها التعرُّض لها والنقد وتوجيه النصح مع تقرير الدور الخطير الذي تقوم به، لأنَّ ذلك يعني أنها لا تزال أمراً ذا شأن من الطبيعي أن يكون موضع اهتمام وحديث وحوار على صفحات المجلات.

وأخيراً ورد تساؤل: أما كان الأحرى إن كان ولابد من النقد أن تذكر الايجابيات كما تذكر السلبيات؟ وكان الجواب: أن هذا صحيح تماماً لولا أن الموضوع الأساسي للمقال هو أزمة الخلق المسلم  المعاصر أي: هو محاولة استعراض بعض صور خلقية سلبية أملاً في الخلاص والعافية، ومن هنا يستحيل تجُّنب الحديث عن الأزمات الخلقية عند الجماعات، وهي عنصر أساسي في إطار أزمة الخلق المسلم المعاصر.

والآن ندخل في الموضوع:

نعرض هنا بعض أمراض خلقية ظهرت مع ظهور التجمعات الإسلامية المعاصرة، وهذا لا ينفي أن لهذه التجمعات فضائل كثيرة، وأن لها آثاراً صالحة في المجتمع، ونحن إذا اردنا أن نقيم تلك الجماعات ـ في إنصاف ـ فينبغي أن يكون هذا التقييم أولاً بمنظور الفترة التي نشأت فيها تلك الجماعات، وثانياً بمنظور الفترة التي تعيشها اليوم، ولكن لما كنا الآن بصدد استعراض بعض ظواهر مرضية تبدو على سطح تلك الجماعات في أيامنا هذه، فنكتفي بالتأكيد على أن الجماعات الإسلامية قد حملت لواء الإصلاح في ظروف صعبة، بل وسط بحيرة آسنة تماماً، واجتهدت  كل جماعة في إصلاح جانب معيَّن نذرت نفسها له معتقدة أنه مدخل الإصلاح العام.

وإني إذ أعي ذاك الدور الخطير الذي حملته تلك الجماعات ـ أيام نشأتها بصفة خاصة ـ أكنُّ لها كل تقدير وإعزاز وانطلاقاً من هذا التقدير والإعزاز أقدِّم لها النصح خالصاً آملاً في مزيد من الرُّشد والسَّداد وتجنُّب العثرات، وكل بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوابون، ومن يعمل مجتهداً يخطئ ويصيب، وقد يُثاب في الحالين، ومن لا يعمل مخطئ غير مصيب وقد يأثم أبداً.

هذا والعمل الجماعي على أية حال من واجبات الدين، حيث يأمر بالتعاون على البر والتقوى، ومن أساليب العصر حيث امتدت الجماعية إلى كل مجالات الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وينبغي ملاحظة أنَّ الأعراض المرضية التي سنتناولها قد تظهر في جماعة دون أخرى، وقد تتفاوت درجة ظهورها، كما أن بعض هذه الأمراض قد ينتشر بين فريق من الأعضاء وتنكره القيادة، لكنه قائم على كل حال، أي أننا هنا نعالج ظواهر عامة أما الدراسة التي تتناول بالتحليل والنقد جماعة بذاتها فلها مجال آخر.

تنظر الحلقة التاسعة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين