خواطر العيد

 

ما أحلى هذه الذكريات وما أمرَّها! وما ألطف تلك المواسمَ وما أَقْسَاهَا! يُقبل العيد فنفس تبتهج ونفس تبتئس، وقلب يفرح وآخر يَلتهب، وخَاطر يَسْتبشر وآخر يَنْدفع في الحُزْنِ والكَمَد...

فالناس خَاضعون لحَوَادث الزمان، مُستسلمون لتصرف الحدثان، فمن واتته أسباب السرور أقبل على العيد فَرِحاً مسروراً، وأتاح له الحبورُ ما ينسيه شقاء الأيام وعناء الأعمال، ومن تكاثرت عليه عوامل الأسى استقبل العيد بقلب حزين وصدر مهموم، يذكر بالعيد أحباباً سلفوا فيأسى على نعمة زالت، ويكمد على أوقات أنس ولَّت، فيسكب العبرات، وتذهب نفسه حسرات، وينوح على أولئك الذين كانوا يملأون حياته هناءة وصفاء، ونفسه غبطة ومرحاً، ويسأل: أين هذه النفوس الزكية الطاهرة، والعقول الناضجة السامية، والأصوات العذبة الجليلة، والحكمة البالغة العَالية، والبصائر النافذة المُستنيرة، لقد ذهب كل ذلك وانتهى، ووسِّد التراب، واحتوته الجنادل والصفائح، وما مصيره، وأين مستقره؟ لا يدري إنسان عن حبيبه شيئاً، ولا يعرف عن مُنتهاه قليلاً ولا كثيراً:

 

يا ليت ماء الفُرات يخبرنا        أين تولت بأهلها السُّفن

 

ولكن حكمة الإسلام سَمَت فوق الفرح والحزن، فقد علَّم الإسلام الناس أنَّ هذه الحياة الدنيا مَرحلة وإن طالت قصيرة، وما هي إلا شوط صغير من ذلك المَدى الواسع الفسيح، خلق الله الإنسان ليجتازها إلى رحاب أوسع، وجنات عرضها السموات والأرض، وسعت خلق الله العاملين: [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] {الأعراف:156}.

ما أعظم هذه السلوة تخطر برأس المحزون وقد غلبه دواره فكأنما هي روح وريحان، وتنزل على قلب المكلوم وقد اشتعلت ناره فكأنَّما هي برد وسلام.

 

هذه الحكمة تنقل الإنسان من التفكير الضيق في أمر نفسه إلى تفكير أشمل وأفق أرحب. فقد قرن الإسلام عيد الأضحى المُبارك بذكريات مَجِيدة يجدر بالمسلمين أن يذكروها، وينبغي لهم أن يحفظوها، فهي تبعث في الأمَّة مَعَاني العزَّة والكَرَامة، وتحيي في نفوس الأفراد عوامل الرجاء والأمل، وتُنير أمام الناس الطريق، فكلما ادلهمَّت الخطوب أوَوْا منها إلى ركنٍ شديد.

 

هذه الأيام ترمز إلى حجِّ بيت الله الحرام، وفي جوار بيت الله يتعلَّم الإنسان دروس الخلود، ويتلقى آيات العظمة والسمو؛ ففي تلك البقاع القَاحلة التي لا تعرف نماء ولا حياة انبعثت حياة الإنسان، وبين أولئك الجُفاة الغِلاظ الذين يحملون أقسى قلوب وأضعف أحلام نشأ ذلك النبي الأميُّ الذي علَّم الدنيا كيف تصح القلوب وترجح الأحلام، ولم يكن ذلك النبي الذي انبثق نوره بين هذه الظلمات إلا معلماً يشرح للناس معاني التهذيب وآداب الجماعة، وكانت آدابه كلها حُرَّاساً على قلب الإنسان، فكان دينه علاجاً إسلامياً دفع الدنيا إلى الأمام، فنقلها إلى عالم الأخلاق، ثم ارتقى بها إلى الخير العام، وانتشلها من الضلالات والأوهام، وكان عجيباً أنَّ إقليماً من الأرض كان أقفر أركانها من الفضيلة، يحمل لواء الفضيلة ويُحارب سائر بقاعها بالطبيعة الجديدة لهذا الدين، ثم يكتب له النصر والفوز المبين.

 

إنَّه يُحارب ويكافح، ويَعْلو بالقوة ويدعو إليها، ويُريد إخضاع الدنيا وحكم العالم، ويستنفد همَّه ويبذل جهده، ولكنه يختلف في حَرْبِه وكِفَاحه عن شَرَائع القوَّة وأساليب القَهْر، فإنَّما تعمل القوة لسيادة المادَّة وتحكمها؛ أما الإسلام فيعمل لسيادة الفضيلة وتغلبها، وتلك تعمل للتفريق واختراع الطبقات، وهو يعمل للمساواة ومحو الشارات.

 

وسيادةُ المادة وعملها للتفريق هما أعظم وسائل العبودية، وانتصار الفضيلة وعملها للمساواة هما أكبر وسائل الحرية.

 

إنَّ كل مسلم يقف بتلك الأودية والفجاج سيمرُّ بفكره لا مَحَالة ذلك الجهادُ القاسي المرير، الذي احتمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نشر دعوته في الآفاق، فيستقر في قلبه أنفع دروسه، وترسم في نفسه صفحات التربية الكاملة والصبر على الكفاح التي أودعها الله نبيه الكريم فعمل بها وثبت عليها وتحلى بآدابها ودعا إليها، ويدرك أنَّ هذه هي العَوَامل الأخلاقيَّة التي ألقيت في مَنبع التاريخ الإسلامي ليعُبّ منها تياره، فتدفعه في طريقه بين الأمم، وتجعل من صفات المُسلم الثبات على الحق وإن أبطأ، والبعدَ عن الأثَرة وإن تهافتت عليها النفوس، واحتقارَ الضعف وإن حكم وتسلط، ومقاومةَ الباطل وإن ساد وغلب، وبقاء الرجل رجلاً وإن خذله جَميع من حوله وما حوله من الأحياء والأشياء.

 

وإذا اتَّجه الإنسان بفكره إلى العاقبة أيقن أنَّها للعَاملين الصابرين، فهذه مكة وما يليها كانت صخراً يتحطم ولا يلين، وكأن الطغيان وضع هذا الصخر في طريق الزمن ليصد به التاريخ الإسلامي عن المسير، تهبُّ بأبنائها وسلاحها تحارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتطارده حتى تخرجه إلى أرض غير أرضه، ويتلقاه قوم غير قومه، فيستمر كفاحه لا يني ولا يخضع، ولا يتجه إلا اتجاه الإنسانية كلها، كأنما كان وحده الإنسانية بأكملها، ويشرح الدين لأمته أعمالاً مفصلة، ويعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي تنظم به أحوال النفس على هدى وبصيرة، ويترك للدنيا عقلها العلمي المُتجدِّد تنظم به مطالبها على قصد وهداية.

وبهذا الكفاح وتلك الحكمة، تعود مكة ذلك الصخر العاتي، طريقاً ذلولاً يحتمل تيار الإسلام ليروي قلوب الناس في الدنيا بأسرها، وتكون ثمرة هذا الرأي أن تلين القلوب القاسية، ويسود الإسلام وتعلو كلمة الله في جميع بقاع الأرض.

 

هنالك في تلك البقاع وفي هذا الحشد العظيم يتعلم الناس الإيمان، والمُسَاواة، والتوحيد، والوحدة.

ففي الحج أبلغ امتحان لصدق الإيمان وقوة اليقين. فقد ألِفت النفوس أن تُؤمن بما تفهم وتذعن لما تدرك، والحجُّ في ظاهره أعمال لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى مَعَانيها، ومِن ثَم كان اتباع الأمر في مناسك الحج ميزان الإيمان الخالص، ومعيار الدين الراسخ، ويحتشد الحجيج عند بيت الله الحرام ينظر بعضهم إلى بعض، وقد عنت لله وجوههم، وخشعت لعظمته قلوبهم، وتجرَّدوا من جميل الثياب وعظيم الألقاب، تصطك المَنَاكب وتقترب الرؤوس، ويُلقي ذلك المجتمع الحافل في رُوع كل حاج أنَّ هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فكلهم عند الله سواء، فلا استكبار ولا استعلاء، لأنَّ العزة كلها للواحد القهار، والناس جميعاً أذلاء أمام عزَّتِه، فقراء حيال غناه، وهذه عقيدة يجب أن تملأ قلب المسلم الصادق، ليدرك أنَّ التطاول بغير عمل، والتكاثر بدون فضل أو مزيَّة، من وسوسة النفوس التي لم تُخالطها بشاشة الإسلام، ولم تنتفع بما فيه من تهذيب، ولم يكتب لها في حظوظ الخير من نصيب.

 

هنالك يذكر المسلم أنَّ هذه الأرض كانت تدنسها الوثنيَّة، وأنَّ الناس كانوا يُلبُّون شاهدين على أنفسهم بالكفر، مُقرِّين بالشرك، وكانت تَرتفع أصواتهم بهذه التلبية الآثمة، وذلك الإشراك المُبين، فأمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً كرم الله وجهه أن ينادي عام الوفود: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

 

فأعلن التوحيد الخالص، وأبطل الشرك من بلاد الإيمان، وجعل الناس جميعاً على الحنيفيَّة السمحة التي شرعها الله، وأمر بها نبيه في كتابه المبين: [إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] {الأنعام:79}.

 

وأصبحت التلبية خالصة لوجه الله، لا إثم فيها ولا إشراك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وتغيَّرت الدعوة واختلف الشعار وتبدَّلت القلوب والأبصار، وأصبح للناس شارة لم يعهدوها، وعقيدة أقبلوا عليها وأحبوها، يعبِّر عنها في المشعر الحرام ذلك النداء، ويؤيدها في بلاد الإسلام تلك الأصوات والأصداء، فالناس في أيامهم هذه يسمع لهم هدير كهدير البحر في تلاطمه، والمساجد تغصُّ بالناس وقد تلاحمت صفوفهم وتلاحقت جماعاتهم، فيهم الشيوخ والشباب، يقفون للصلاة كسطر في كتاب، يتتابعون صفاً وراء صف، ونسقاً بعد نسق، ليس لهم إلا التهليل والتكبير، والخضوع للعلي الكبير، والمُسلمون جميعاً بين حاج يلبي دعوة الله ومقيم يردد صداه، ألا ما أروع هذا الاتحاد وما أعزَّ معناه! وما أشدَّ حَاجة المسلمين أن يَفْهموا الأعياد فهماً صحيحاً يستقبلونها به ويأخذونه من ناحيته، فتصبح أياماً عاملة تنبِّه فيهم أوصافها القوية، وتبعث في نفوسهم معانيها النافعة.

 

فليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تجدد حياتها، وتستعيد مجدها، وتحيي تاريخ السالفين، وتنقله أمثلة صالحة لمن ينتفع بها من اللاحقين، بمثل هذا تعيش الأمم وتستقر النظم، ومن هذا التراث تستمد عوامل البقاء، ومن سيرة الأولين تستقى أسباب البناء، وإن في التاريخ لعبرة، وإن فيه لذكرى لقوم عابدين.

 

يذكر الإنسان في تلك البقاع القاحلة أن تلك الأرض المُجدبة أنجبت أفضل أُمم الدنيا عدلاً وكياسة، وأنَّ هؤلاء القوم الذين لم يأخذوا حظاً من علم ولا قسطاً من كتاب كان فيهم أقوم الناس خلقاً وسياسة، وأن العرب الذين كانوا مستبعدين لأهوائهم مستضعفين لرؤسائهم يقوم فيهم أولئك القوم الذين خلعوا الاستعباد وتمرَّدوا على البطش والطغيان، حتى كانوا في الدنيا دعائم الحكم العادل الذين قَامت عليهم صروحه، وأساطين الدين القويم الذين استبان بهم صريحه، لا تعتريهم ذلَّة ولا يَأخذهم وهن، ولا يغريهم طمع ولا ترهبهم قوة، وجدير بأمَّة يتولى أمرها نفر هذَّبهم الإسلام وألان قلوبهم القاسية وغيَّر طبائعهم الجامِحَة أن يكون حكمهم نصَفة، ورياستهم سداداً ورحمة، فقد تلقوا ذلك عن سيد البشر الذي أدَّبه ربه فأحسن تأديبه، وأنزل عليه: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.

 

وقد حثَّ أمته على التعاون في البر والتناصر في المَعْروف، وأنذرهم ألا يتهاونوا مع ظَالم ولا يسكتوا على جور، ولا يستكينوا لعسف: إنَّ الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] {الأنفال:25} .

 

وتبعه قوم زهدوا في الدنيا زهادة لا تعرفها أمم الأرض، وأَدبروا عنها وطرحوها وراءهم ظهرياً، ليس لهم في السلطان رغبة، ولا في الحكم مأرب، لا يفرضون على الناس قوة، ولا يبسطون عليهم بطشاً، ويقول لهم الخليفة الأول عليه رضوان الله: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.

 

فكان هذا تعبيراً عن سنَّة الإسلام، يبشر الأمم بنزع أغلال الذل والاستعباد من أعناقهم، وتحطيم قيود السيطرة الجَائرة من أيديهم وأرجلهم، وهذا أغلى شيء تشرئب إليه النفوس الأبية، وترجوه القلوب القوية، ولكن الأسف يملأ الفؤاد إذا رأى نفوساً حارت في فضاء الحياة الفانية، ورضيت فيها بذلك المتاع الدنيوي واحتجنت في أحضانها رغبات الحياة الذليلة، وهامت بالحكم والسلطان، وأرغموا الأنوف وأطبقوا الأفواه، وهدَّدوا الظهور بالسياط والأعناق بالأغلال:

 

ظلموا الرعية واستباحوا كيدَها    وعَدَوا مصالحها وهم أجراؤها

 

وقد علَّمتنا سُنَّة الحياة في الأمم التي أَتَت بعد الخُلفاء الراشدين أنَّ الله لا يَرضى لعباده القهر، ولا يحب لهم الذل، ولذلك أذاقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وكانت عاقبتهم أنكالاً وجحيماً، كما قال تعالى: [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا] {الطَّلاق: 8 ـ 9}.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

مجلة لواء الإسلام العدد الرابعة من السنة التاسعة ذو الحجة 1374هـ=يوليه1955م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين