خلق الحياء -2-

مجد مكي

 
 

 

الوصية بالحياء:

عن سعيد بن يزيد الأزور رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني: قال:(أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك ). رواه الطبراني في الكبير (5539)، قال الهيثمي في (المجمع): ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم.
فالاستحياء من الله تعالى  يجب أن يكون أشد من الاستحياء من الناس جميعاً، قال تعالى: [يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا] {النساء:108}، فالله سبحانه هو أحق من يستحيا منه، لأنه لا تخفى عليه خافية.
ومعلوم أن جميع المعاصي تكون خفية أو في خفاء: خفية لا يدركها الناس: كالفسق والكذب والنميمة، وفي خفاء: كالسرقة والزنا والسكر... فلو حقق العبد استحياءه من الله تعالى لا يرتكب إثماً ولا يترك واجباً، ويكون كما قيل: (لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك  حيث أمرك).
قال النووي  في معنى الحياء في (رياض الصالحين) : (قال العلماء: حقيقة الحياء خُلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق).
قال: روينا عن أبي القاسم الجنيد قال: (الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى حياء).
والحياء: خلق حميد دعت إليه الأنبياء أممهم كما في الحديث عن ابن مسعود عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت). أخرجه البخاري (6120). فمن فَقَدَ الحياء فلا زاجر له عن شيء.
والحياء شعبة من الإيمان فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) أخرجه مسلم (35).
والحياء من أقوى عوامل العفة: جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يعسُّ ليلاً بالمدينة، فسمع امرأة داخل بيتها تقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه=وليس إلى جنبي خليل أداعبه
فوالله لولا الله لا شيء غيره=لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني=وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
فهذه امرأة مغيبة وهي في بيتها وحيدة، فلم يحفظ سريرها أن يزعزع، ولم يصن مراكب بعلها أن تنال إلا مخافة الله وحياؤها، فنعم الخلق الحياء. ونعم سياج العفة: الحياء.
ولما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النسوة قال: (ولا يزنين فقالت هند: أوَ تزني الحرة يا رسول الله؟) البوصيري (إتحاف الخيرة)
وفي حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، فانسد عليهم بابه بصخرة عظيمة، وأخذوا يتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم، فكان منهم الذي قال: (إنه كانت له بنت عم أحبها أشد ما يحب الرجال النساء، وراودها عن نفسها فامتنعت فأخذتها السنون، فجاءتني تسألني، فعرضت عليها ذاك الطلب فاستجابت لشدة حاجتها، فلما جلست منها مجلس الرجل، استحيت وغطت وجهها، وقال: يا هذا اتق الله ولا تفضنَّ الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت لها المال) أخرجه البخاري (3465)، ومسلم (2743) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقد ثبت في السنة أن من استحيا من الله فإن الله يستحيي منه، كما في حديث النفر الثلاثة الذين وقفوا على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يحدث أصحابه، فجلس أحدهم مع القوم، واستحيى الثاني فلم يزاحمهم، وانصرف الثالث.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بخبر هؤلاء الثلاثة ؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه) قال الهيثمي في (المجمع): رواه البزار والطبراني في الاوسط، ورجاله ثقات.
مواطن الاستحياء:
1 ـ حياء الجناية: كحياء آدم عليه السلام من الله تعالى لما أكل من الشجرة، وهذا النوع يدل على وجود أصل الإيمان وحيوية الضمير، بحيث يتألم بسبب ما ارتكب من ذنب، بخلاف الذين يأتون الفاحش ولا يبالون، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عما سيكون في آخر الزمن أن الرجال والنساء يتسافدون في الطرقات ولا يبالون، وأن الخيَّر فيهم من يقول: (هلا جنبتها عن الطريق). رواه الحاكم وصححه، وقال الذهبي: الخبر شبه خرافة!.
وكم من زلة كانت سبباً لتوبة صاحبها واستقامته وهدايته، حينما شعر بوزره وحقارة نفسه أمام خطيئاته.
 
2 ـ حياء التقصير:  وهذا مثل حياء الملائكة حين يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وهذا النوع يدفع الإنسان إلى الكمال، فالإنسان إذا أحس بالتقصير والنقص يسعى جاهداً للوفاء والكمال، ولا يزال هكذا أبداً لأنه ما من مرحلة يصلها إلا وفوقها ما هو أعظم منها، سواء في  العلم أو العمل ولاسيما إذا استشعر نعم المنعم عليه، يشير إلى ذلك مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، ولما كلمته عائشة رضي الله عنه في ذلك، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أجابها قائلاً: (أفلا أكون عبداً شكوراً) أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة بن شعبة، والسيدة عائشة رضي الله عنهما.
3 ـ حياء الإجلال:  وهو أن تستحيي ممَّن تجله وتعظمه.
4 وحياء حشمة: ومنه حياء علي رضي الله عنه أن يسال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي لمكانة ابنته فاطمة رضي الله عنها، قال: كنت رجلاً مذاءً، أي كثير المذي، وهو الماء الذي يخرج بعد المداعبة، قال: فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت المقداد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اغسل فرجك وتوضأ. أخرجه البخاري (132)، ومسلم (303).
 
5 ـ وقد يكون استحياء استحقار: كأن تستحيي أن تطلب الشيء الحقير ممن هو عظيم عندك، وقد جاء عن موسى صلى الله عليه وعلى نبينا أنه قال الله له: سلني كل شيء يا موسى! فقال: إني لتعرض لي الحاجة من الدنيا، وأستحيي أن أسألك يا رب، فقال الله له: سلني كل حاجتك يا موسى حتى ملح عجينك، وعلق دابتك، وشََرك نعلك.
 
6 ـ وهناك حياء التعفف: وهو أشدها خطراً وأعظمها شأناً وأكثرها فائدة.
هذه مجمل مواطن الحياء، ولا يدخل في هذه المواطن: السؤال عن العلم، مباشرة أو بواسطة، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: اثنان لا يتعلمان: مستح ومستكبر.
 
وقد امتدحت عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار، لعدم استحيائهن في استفتاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن. أخرجه مسلم (332).
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن أم سليم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت؟ قال: نعم إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة: وتحتلم  المرأة؟ فقال: تربت يداك فما يشبهها ولدها؟ أخرجه البخاري (130)، ومسلم (313).
وروى مسلم (349) أن أبا موسى قال لعائشة رضي الله عنها، إني اريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي منك، فقالت: سل ولا تستحيي فأنا أمك، فسألها عن الرجل يغشى أهله ولا ينزل، فقالت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب الختان الختان فقد وجب الغسل).
وذلك لأن الاستحياء في طلب العلم قد يحول دون التعليم، وما عدا طلب العلم فإن الحياء في جميع الأحول ممدوح ومستحسن، لأنه من خلق الإسلام وخلق الأنبياء جميعاً، وهو خير كله، ومن حُرم الحياء فقد حرم الخير كله.
إن الحياء من أقوى البواعث على الاتصاف بما هو حسن محبوب واجتنابِ ما هو قبيح مكروه. وإذا تخلق المرء به سارع إلى مكارم الأخلاق، ونأى عن رذائل الصفات، ولذلك
نسأل الله جلت قدرته أن يجملنا بخلق الحياء، إنه أكرم مسؤول، وأفضل مأمول.
 وكتبه مجد بن أحمد بن سعيد مكي (ليلة الجمعة 28/6/1402 )، في الحرم المكي الشريف، بعد صلاة العشاء، بين الحجر والركن، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 
يتابع الجزء الأول من المقالة على الرابط التالي :
http://islamsyria.com/article.php?action=details&AID=3961


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين