خلق الحياء -1 -

الشيخ: مجد مكي

 
حث الإسلام على التحلي بخلق الحياء، والبعد عن كل وقاحة ومجانة وفحش وبذاء. وخلق الحياء في  مقدمة الأخلاق الإسلامية،  روى ابن ماجه (4181)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل دين خُلُقاً وخُلق الإسلام الحياء)، ورواه مالك (1678) من حديث طلحة بن ركانة.
وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحياء من الإيمان وأنه خيرٌ كله، روى البخاري(24) ومسلم (36) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء كأنه يقول له: إن الحياء قد أضربك فقال: (دعه فإن الحياء من الإيمان)، وروى البخاري (6117)، ومسلم (37) عن عمران بن حصين: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، وفي رواية لمسلم (37): (الحياء خيرٌ كلَّه).
وهو سبيل إلى جنة الله ورضوانه: روى الإمام أحمد(10134)، والترمذي(2009)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار)، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (25859)، عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً: (إن الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) ورواه الطبراني في الأوسط (4471) مرفوعاً، وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الشعبي إلا مالك بن مغول ولا عن مالك إلا أبوإسحاق الفزاري تفرد به محمد بن عبيدة.
والحياء من صفات الله عزَّ وجل، قال تعالى:[إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا] {البقرة:26}، أي: لا يدع ولا يترك ولا يمتنع، لأن ضرب الأمثال ليس بقبيح حتى يستحيا منه، والحياء في حق الله تعالى لا يجوز بالمعنى البشري، فهو منزه عن الاتصاف بصفات البشر، لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول وحياؤه سبحانه حياء كرم وبر وجود، روى الترمذي (3556)، وأبو داود (1488)، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يده أن يردهما صفراً). ورواه الحاكم، وقال إسناده صحيح على شرطهما.
والحياء من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، أشد حياء من العذراء في خدرها. روى البخاري (3562)، ومسلم (2320)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه).
ومن بالغ حيائه صلى الله عليه وسلم أن أقواماً كانوا يتحينون وقت طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون بيته، وينتظرون إدراك الطعام، ويطيلون الجلوس والحديث، وكان هذا يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لتضييق الدار عليه وعلى أهله، فكان يستحيي من دعوتهم إلى الخروج، فنزل قول الله سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ] {الأحزاب:53}.
ومن حيائه صلى الله عليه وسلم: أنه (لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق) رواه البخاري (3559)، ومسلم (2321)، لأن هذه الأمور تنافي الحياء.
روى الإمام أحمد (25417)، والترمذي (2016) عن السيدة عائشة رضي الله عنه قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، ولا سخاباً في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح).
ومن حيائه صلى الله عليه وسلم: استعمال الكناية في التعبير عما يستهجنه باختيار الألفاظ المألوفة المقبولة المعروفة التي تؤدي المقصود من غير تصريح، مثال ذلك ما رواه البخاري (660)، ومسلم (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله... وذكر منهم، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال...) فانظر كيف كنى عن المراء بقوله (دعته امرأة) أي: دعته إلى فعل الفاحشة.
 ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي طلقها زوجها الثاني لكنه لم يدخل بها دخولاً كاملاً فجاءت تسأله هل تحل لزوجها الأول؟ فقال لها: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433)، من حديث عائشة رضي الله عنها. أي: حتى يتم الجماع كاملاً وكنى عنه بالعسيلة وعن تمام الاتصال بالذواق، ومن ذلك ما رواه البخاري (6474) من حديث سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) فانظر كيف كنى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرج بقوله ما بين رجليه.
وهذا الأدب الرفيع تجده في كتاب الله المجيد إذ لا يذكر الله سبحانه ألفاظ الفحش، وإذا دعت الحاجة لبيان حكم من أحكام الدين يكتفي في ذلك بالكنايات وإرشارات الألفاظ كالملامسة والمباشرة، والغائط ونحو ذلك.
 

أنواع الحياء

 

والحياء على أنواع كثيرة، حياء من الله سبحانه، وحياء من الناس، وحياء المرء من نفسه، وإذا استحيا من نفسه فهو من غير أشد استحياء.
والاستحياء من الله سبحانه بيَّنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: روى الترمذي (2458)، والحاكم (7915) وصححه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا نبي الله إنا لنستحي والحمد لله قال: ليس ذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن  أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء). قال الذهبي في التخليص: صحيح.
فالحديث يشير إلى أن الحياء يتمثل في أمور:
1 ـ حفظ الحواس من السمع والبصر واللسان من أن تأتي منكراً، أو تفعل ما تذم عليه.
2 ـ حفظ البطن من الشراهة، وكثرة تناول الطعام، وحفظها من أكل ما حرم الله وحفظ الفرج من الزنا والرفث.
3 ـ وترك ما حرم الله من زينة الدنيا، فمن تحقق بهذه الصفات فقد استحيا من الله عزَّ وجل حق الحياء.
ومما يدعو إليه الحياء ستر العورات: روى أبو داود (4012)، والنسائي (406)، عن يعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبراز ـ أي: في الفضاء من غير تستر ـ فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن الله حَيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر).
وكان موسى عليه السلام حيياً ستيراً، وكان يستر بدنه، وبسبب ستره آذاه بعض بني إسرائيل في أقوالهم، فقالوا: ما يبالغ في ستر نفسه إلا من عيب في جسمه أو من أدرة هو مصاب بها.
روى البخاري (3404)، ومسلم (339)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى شيء من جلده استحياءً فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما تستر هذا التستر إلا من عيبٍ أو أدرةٍ وإن الله أراد أن يبرئه فخلا يوماً وحده ليغتسل، فوضع ثوبه على حجره، ففر الحجر بثوبه، فجمح موسى في إثره، يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وقالوا: والله ما بموسى من بأس وأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضرباً، فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً).
إن الحياء يمنع صاحبه عن ارتكاب النقائض والقبائح والمنكرات، أما حينما ينعدم خلق الحياء فإنه يهون على الإنسان أن يفعل النقائص والقبائح ما يشاء، وإعلاناً لهذه الحقيقة بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا تخلى عن الحياء سارع إلى المنكرات، وتجرأ على هتك الحرمات، روى البخاري (6120) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)
إذا لم تخش عاقبة الليالي=ولم تستح فافعل ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير=ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير=ويبقى العود ما بقي الحياء.
 
ففقد خلق الحياء يجعل الإنسان وقحاً وماجناً يجاهر بقبائح فعاله دون أن يكترث بما يقوله الناس، وبما يعيبونه به... ومن الوقاحة والمجانة أن يتحدث الإنسان بما فعل من القبائح التي سترها الله عليه.
 روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرون، وإنَّ من المجانة أن يعمل الرجل عملاً بالليل ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه).
لقد كان من نتائج الإعراض عن هذا الخلق أن تفشى في المجتمع الاستهتار بالقيم الرفيعة، والتجرد من الفضائل الموروثة، وانتشرت الرذائل وأخذت طريقها في إفساد المجتمع، فمن مناظر التبرج وعرض مفاتن الجسد، إلى أغان رخيصة مبتذلة، وكتب مثيرة، وقصص عابثة، وصور فاضحة، وأفلام خليعة، تغري بالفسق والفجور، إلى أمثال هذه النقائص التي تسلب الإنسان الحياء وتزين له الشر وتغمسه في الشهوات والآثام.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين