خطيئة وخطورة تعميم موقف دعوى‎

 

يحلو للبعض أن يقول "أمر الله تعالى بلين الجانب، حتي مع فرعون كما أمر موسى وهارون، ، حين بعثهما إلى فرعون فقال: [ فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ] هذا فرعون الذي قال " انا ربكم الاعلى " ومع ذلك أمر الله موسي وهارون عليهما السلام أن يقولا له قولاً لينا فليس المدعو أكفر أو أفسق من فرعون ولا الداعية اتقي من موسي عليه السلام".

 

أقول : هذا مما يُؤسف له فى الرسائل مما يصلح أن نطلق عليه ابتسار واجتزاء المواقف الدعوية بانتزاع لقطة من المشهد الدعوي وإطلاقه وتعميمه بغض النظر عما قبله وما بعده وعن ملابساته وظروفه وَمِمَّا لا يجهله تربوي قد شمَّ رائحة الفقه التربوي والدعوي ، مراعاة الفروق الفردية ، وأن ما يصلح مع فرد لا يصلح بالضرورة مع فرد آخر. بل ما يصلح فى وقت  مع فرد لا يصلح بالضرورة مع نفس الفرد فى وفت آخر حتما، لذا كان اجتزاء "فقولا له قولا لينا" عما قبلها وما بعدها فى سياق المقطع القرآني ذاته ، وتعميمه وإغفال المواقف الدعوية الأخرى نوع من تسطيح الدعوة وتهميشها ، وقد قال الثوري التابعي الجليل : الرفق هو أن تضع الأمور مواضعها، الشدة في موضعها، واللين في موضعه، والسيف في موضعه، والسوط في موضعه، من الأمور أمور لا يصلح فيها الرفق ولا يصلح فيها إلا الشدة، كالجرح يعالج فإذا احتاجوا إلى الحديد لم يكن منه بد[1].

 

وفى منثور الحِكْمة : "سس خيار الناس بالمحبة وامزج للعامة الرهبة بالرغبة وسس سفلة الناس بالإخافة"[2]

 

وسأل المأمون رسول الروم لما قدم عليه عن سيرة ملكهم وحكمه فقال: يردع الظالم ويحنو على المظلوم فالرعية اثنان راض ومغتبط.[3] 

 

وقال أنوشروان :الناس ثلاث طبقات نسوسهم ثلاث سياسات طبقة هم خاصة الأبرار نسوسهم بالعطف واللين والاحسان وطبقة هم خاصة الأشرار نسوسهم بالغلظة والعنف وطبقة هم العامة نسوسهم بالشدة واللين كيلا تخرجهم الشدة ولا يبطرهم اللين وقال الشاعر

 

إذا كنتم للناس أهل سياسة ... فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل

 

وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا ... على الذل إن الذل أوفق للنذل[4]

 

وعلى هذا فمما لا يختلف عليه اثنان أنه ليس من الحكمة إعمال الشدة في موضع اللين، أو اللين في موضع الشدة. فهذا ما لا يقبله ولا يقره الفضلاء من الناس فضلا عن العلماء فما بالك بالأنبياء الذي اصطفاهم الله لرسالته وصنعهم على عينه وهذا الذي أنكرناه ، من تعميم موقف دعوي في كل الأحوال والأوقات ،  مما لا يتناسب مع نصوص الوحيين ودونك البيان: قال العبد الصالح "  أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا*وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا"[5] 

 

والخليل كم مرة تلطف مع أبيه " يَاأَبَتِ..."[6]" فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ"[7]  ولا يتناسب أيضا  مع سيرة النبيين الكريمين .. فمع الكليم : فى نفس المقطع القرآني  " قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى? *  قَالَ لَا تَخَافَا ? إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ? قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ? وَالسَّلَامُ عَلَى? مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى? * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى? مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى?"[8]  تلاحظ بعدما بث موسى وهارون ربهما عز وجل مخاوفهما من بطشه وطغيانه ، وطمأنهما المولي - جل مذكورا وعز مرادا- بمعيته فربط  على قلبيهما بهذه المعية ، فلم يبق أمامهما إلا الصدع بأمر الله وإعلانه ببعثتهما وتقرير مطلبهما بتحرير بني إسرائيل والكف عن تعذيبهم ، وتأمل 

 

?-الصدع بالحق وتجريده مما يزعم ويفترى به على بني إسرائيل فى دعواه الربوبية فهو مربوب وليس ربا كما يدعي " أنا ربكم الأعلي"تأمل "رسولا ربك" (الرسالة+الربوبية)

 

?-نزع يده وكفها عن  استعباد بنى إسرئيل وهذا موئل دعواه الربوبية والألوهية " ما علمت لكم من إله غيري"

 

?- الجهر بكلمة الحق فى وجهه ومجابهته بأنه جائر بائر بتعذيبه لبنى إسرائيل ولا بد من وضع حد لهذا الجور" أرسل معنا بني إسرائيل ...ولا تعذبهم "

 

?-مُعَالنته بما معهم من آيات الله وللمرة الثانية تحقيره وتسفيهه بتجريده من دعواه الربوبية ومجابهته بالحقيقة الأزلية الأبدية أنه مربوب كسائر الخلق تأمل" جئناك بآية من ربك" 

 

?- الخامسة:إنهاء اللقاء بسلام مفارقة لا سلام تحية فلم ترد كاف الخطاب فى السلام ولم يرد ما يشعر بالخصوصية أوبالمخاطبة بالسلام كما المعتاد فى مثل ذلك إنما جاء " والسلام على من اتبع الهدى" وهذا مثل الآية " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" فكأنه لعدم اتباعه الهدى لا  يستحق ولم يَرْق إلى أهلية مخاطبتهما له بالسلام تحية عندالمفارقة . وما أشده من توبيخ 

 

?- التالي لكتاب الله بالتأمل والتدبرالمشروع يقر بهذه الحقيقة التي قررناها هنا وهي عدم صلاحية تعميم موقف دعوي فى كل الأحوال والمواقف ، فذلك يخالف الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراكثيرا وإنما الحكمة مراعاة مقتضى الحال ولكل مقام مقال ولكل حادثة حديث وعلى هذا، تجد مواضع أخرى تشرع فيها أساليب مناسبة قولية وعملية ودونك : 

 

?-وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ? إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى? إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ"[9]

 

?-وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى? تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ? فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى? مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَ?ؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا"[10] وغير ذلك الكثير ..من قصص الكليم فى الوحي المعصوم 

 

وأما عن حياة النبي الخاتم ، فمع" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ? وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ? فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ? فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"[11]  ومع هذا : تجد أن هذا الأسلوب ليس  عاما وليس فى كل الأحوال وليس مع كل الناس وإلا لما أقام الحدود وطبق القصاص وواجه المنافقين وجاهدهم بأمر الله تعالى " جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم "[12] وقديما قيل

 

" فَقَسَا ليزدجروا ومن بك حازما فليقسوا أحيانا على من يرحم" هذا والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم

 

 

[1] ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (2/ 234)

[2] مفيد العلوم ومبيد الهموم (ص: 418)

[3] غرر الخصائص الواضحة (ص: 132)

[4] غرر الخصائص الواضحة (ص: 132)

[5] الكهف : 87+ 88

[6] مريم :42_45

[7] التوبة : 114

[8] طه : 45- 48

[9] غافر : 26-27

[10] الإسراء : 101+102

[11] أل عمران 159

[12] التوبة : 73 + التحريم : 9

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين