خطوات نحو توثيق الإخاء وتصحيح الانتماء

 

بحث الأستاذ محمد الغزالي المقدم للمؤتمر العالمي الثاني لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 
1403-1404هـ
حول التضامن والوحدة عن طريق معالجة أساليب التفرقة بين المسلمين ووسائل مقاومتها 

 

تنتمي إلى الإسلام اليوم أمم كثيرة، وهو انتماء يحتاج إلى تقدير ووزن دقيقين كي نعرف حقيقته وقيمته، ومعاذ الله أن نُشكّك في إيمان مؤمن، فالمسلمون حيث كانوا من أحرص أهل الأرض على التمسك بدينهم، وتوكيِّد الانتساب إليه.
وإنما نُريد أن تُعرف الظروفُ الغربية التي تحيط بهم، وتؤثِّر على نحو ما في عملهم بدينهم، ولقائهم بأخوتهم، وأدائهم لرسالتهم...
هناك مسلمون يعيشون في ظلِّ حكم علماني ليست له - ولو في الظاهر - صبغة دينية، وهو حكم يرفض الارتباط بالإسلام، أو الاعتراف بأثره على الدولة أو هو يُسوِّي بين الإيمان والإلحاد، ويستبعد الشريعة الإسلامية من قوانينه الداخلية وعلاقاته الخارجية جميعاً...
وربما كان المسلمون في ظل هذه النُّظم العلمانيَّة كثرة مطلقة أو ذاتيَّة أو كانوا أقليات مرهقة، وثلث مسلمي العالم تقريباً من هذا القبيل، ويجب أن نذكر وضع هؤلاء حين نتكلم عن الدعوة الإسلامية، ووحدة الأمة الكبرى..
وهناك مسلمون أعلنت حكوماتهم ولاءها للشيوعية العالمية، وقررت في الداخل والخارج الارتباط بالكتلة الشرقية، وهي تحكم رعاياها على أساس التمهيد لهذا المذهب، وتقديم الولاء له على كل ولاء... وقد تذكر الإسلام بشرٍّ أو لا تذكره، وقد تجتهد في تطويع تعاليمه لفلسفتها المادية وما يجوز أن يغيب عنا هذا الوضع سواءً كان في روسيا أو الصين أو بعض البلاد العربية...
وهناك مسلمون رفضت حكوماتهم أن يكون الإسلام دستور الدولة، ووضعت خطتها على أساس الخلاص منه على مرِّ الزمن، كما أن هناك حكومات أقل خصاماً، استبقت العنوان الإسلامي على تشريعات و توجيهات مجلوبة من الدول الاستعمارية، وهي تحرس هذه وتلك بسلطاتها الكبيرة وتأبى تغييرها...


وهناك مسلمون مخلصون لدينهم، معالنون بالولاء له، بيد أن تطبيقهم له رديء الفقه، مثير للاعتراض والقلق...
وأعداء الإسلام التقليديون يتَّهمون هؤلاء بالتخلف الحضاري والميول العدوانية، ولعل الحرب المعلنة على الصحوة الإسلامية المعاصرة تنظر إلى مسالك هؤلاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم....


ونسارع إلى القول بأن هذه الملاحظات على أوضاع المسلمين لا تعني تصنيف جماهير الأمة في المشارق والمغارب، وإقامة فواصل بينها، فلا تزال الأمة متماسكة الإيمان، ولا تزال الروافد التي تصون وحدتها جيَّاشة حيَّة، ولا يزال الحنين إلى الجامعة الإسلامية والخلافة العظمى قارّاً بالأفئدة، مخامراً للنفوس... والواقع أن هذا التمزيق طارئ على تاريخنا، ولكي نزيله ونبرأ منه يجب أن نقصيَ أسبابه، ونغلق أبوابه...
إلى أواسط القرن الرابع عشر الهجري كانت للمسلمين خلافة كبرى، فقد بقي الأتراك قرابة خمسة قرون يقودون العالم الإسلامي، ثم تضافرت الفتن الداخلية والمؤامرات اليهودية والنصرانية على الدولة العجوز، فنالت منها شر منال، وجاء انتفاض العرب على دولة الخلافة إبَّان الحرب العالمية الأولى، فأجهز على وجودها...


وبدا كأنَّ القومية التركية والقومية العربية هما السبب في انتهاء الخلافة وذهاب ريحها، وما ينكر عاقل أن هذه النزعات الجنسية المريبة أوهنت الأمة الإسلامية، وزلزلت كيانها، وأصاب الإسلام منها شر مستطر...
ولما كان الإسلام رسالة عالمية، ولما كانت الأجناس التي اعتنقته كثيرة، ولما كانت حضارته العظيمة من صنع هذه الأجناس كلها، فإنَّ إثارة النعرات العربية صدع للبناء الإسلامي وعوْد للجاهليات الأولى..
ومن ثم يجب في دعوتنا لإحياء وحدتنا أن نميت صيحات الجاهلية، وأن نبرز العنوان الإسلامي وحده أساساً للنهضة والبعث والانطلاق إلى مستقبل أفضل...


ومعلوم أن القوميات الكبرى تحمل في أحشائها قوميات صغرى..... 
وقد انتهت هذه وتلك – تحت وطأة ظروف شتى – إلى جعل المسلمين منقسمين على سبعين جنسية سياسية، ونحن لا نصادم الواقع المؤسف، وإنما نبغي حصره داخل سياح المصالح المدنية والعمرانية على أن يكون ولاء المسلمين الأول لدينهم، وإحساسهم الأقوى بأخوتهم الإسلامية، وتساندهم جميعاً في وجه قوى تبيِّت لهم الشر، و تسعى لتأتي على الإسلام من القواعد...
ولكي نعمِّق الولاء للإسلام ونردم الوحدة التي تفصلنا عن ماضينا الزاهر، نشرح الحقائق الآتية:
لا يمكن تصور تضامن إسلامي ناجح بين سلطات بعضها يكره الإسلام وبعضها الآخر يرفض تعاليمه في ساحات كثيرة أو قليلة.
ولقد رأينا دويلات إسلامية تغمض العين عن اجتياح الروس لأفغانستان المسلمة؛ لأن ذلك يغضب سادتها الحمر...
إنَّ أيَّ وحدة منشودة وتساند مقترح، ينبغي أن يتفق في الوسيلة أو في الغاية، ووحدة الصف أو الهدف تعتبر وهمًا مع هذا الخروج على المقرَّرات الإسلامية البديهية.


وما قيمة تضامن إسلامي يقبل ابتلاع الشيوعية لقطر إسلامي؟ وما معنى هذا التضامن إذا كان البعض يأبى بعنف أن يكون الجهاد الإسلامي عنواناً لاسترداد فلسطين مثلاً؟!
إنَّ الإسلام الذي نسعى لإنصافه يتطلَّب ابتداء التحقق من طبيعة الأجزاء التي يتكوَّن منها عالمه الكبير، لكننا لا نحب أن نتغاضى عن الجماهير الطيبة المغلوبة على أمرها والتي تخضع كارهة لسلطات زائغة.....
وقد يفرض هذا علينا مسلكاً معنتاً محيراً، بيْد أننا لا نعجز عن تحضير مواد ثقافية وإعلامية تعين جماهير المسلمين المحرجين على الثبات حتى يأتي الله بالفرج، فما تكون هذه المواد المطلوبة؟


إن تحديدها يتم عندما نعرف مراد أعداء الإسلام، وخططهم للنيل منه، فلنكن صرحاء في مواجهة أوضاع المسلمين المعاصرين...
 إن القوى المعادية للإسلام شرقية كانت أو غربية، علمانية أو دينية، بعدما اقتسمت العالم الإسلامي بينها، شرعت في محو عقيدته بعد محو دولته، وفي تحقير شعائره بعد استبعاد شرائعه، وفي طي معالم الحلال والحرام والمعروف والمنكر ، وجعل الشعوب العزلاء المهزومة تحيا وَفْق منطق آخر، وتسير نحو هاوية حُفرت بخبث ودهاء...
وعلى المسلمين الذين نجاهم الله من هذا البلاء أن يدركوا إخوانهم، وأن يقدِّموا لهم العون الروحي والعلمي الذي يستبقي إيمانهم، ويحبط محاولات التكفير والتنصير والتهويد التي يتعرضون لها...


وهنا يجب إبراز ثلاثة أمور:


الأول: إشعار الأقليات الإسلامية والجماعات الساعية لاستعادة الحياة الإسلامية الكاملة، أنَّ التمزق الحالي للمسلمين هو محنة عارضة، سبق أن تعرض الكيان الإسلامي لها ثم تغلَّب عليها ونجا منها، وأن الاستسلام للهزيمة خطأ، وفقدان الثقة في المستقبل إثم...!
وعلى المسلم في أيِّ بقعة أن يناشد إخوانه التجمُّع على الصلوات الخمس، وإرسال المستطيع لأداء فريضة الحج.
كما يجب الاهتمام بالقضايا الإسلامية كلها، ومقاومة الشَّتات الذي يوهي الأخوة الدينيَّة، ويدفع الفرد إلى الاهتمام بشئونه وحدها.
إنَّ الهزيمة تجيء من داخل النفس قبل أن تجيء من ضغوط الأعداء، ولسنا أول أمة ابتليت وفُرض عليها أن تكافح لتحيا كما تريد.
الثاني: عقيدتنا أساسها التوحيد، وهو في الإسلام موضوع وشكل، وفرع وأصل، وعقل ونقل، ويستحيل أن يكون التثليث النصراني، أو التجسيد اليهودي أرجح منه في الميزان أو أوْلى منه بالقبول.


والمحاولات الآن دائبة لصدع هذا التوحيد، ونسيان كلمته، ويوجد نحو من مائة ألف (مبشر) للفاتيكان يعملون بجد ضد عقيدة التوحيد، ذلك فضلاً عن سماسرة الكنائس الأخرى، ولهم رسائلهم بل إذاعاتهم التي تخرق الآذان صباحاً ومساءاً، والتي يكثر فيها الحديث عن عقيدة الصلب والفداء...
وواجبنا -نحن المسلمين المتمتعين بالعافية - أن نلقى هذه التيارات بتيار أشد، وأن ندفع الباطل بما أوتينا من حق، وأن ننقذ الألوف المؤلَّفة من هذه الغارات المتتابعة.....


إنَّ هذه الغارات أحرزت بعض النجاح لتهاوننا في ردِّها واستنقاذ البؤساء من مخالبها، ولو أبدينا اليقظة المطلوبة لباءت بالفشل الذريع.
لقد اشتغلنا بفصول علمية عن هذه الفريضة، فلنعلم أن البحوث والخلافات الفقهية الشاغلة عن صوْن أساس الدين جريمة بشعة..... كما أنه ينبغي لفت المسلمين للحقوق الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي يتضمَّنها الإسلام، والتي تعجز عن تقديم مثلها المذاهب المحدثة كلها، وبذلك ينصرف المخدوعين عن اتِّباع فلسفات باطلة، ويعلمون أنَّ دينهم فيه الوفاء التامُّ لأشواقهم النفسيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة...
والأمر الثالث: أن تكون ثقافتنا المذاعة والمنشورة قائمة على التقريب لا المباعدة والرتق لا الفتق.
إنَّ الألف مليون مسلم تشيع بينهم أخطاء فكرية وخلقية فاحشة...


 وهل استمكن منهم أعداؤهم إلا لهذه الأخطاء المستقرة؟ والناصح المسيء كالطبيب الطائش قد يقتل مريضة بدلاً من أن يحييه، وعلينا أن نعالج برقَّة، وألا نسترسل مع العِناد، وأن يتَّسع أفقنا لوجهات نظر كثيرة، فإنَّ مسلماً تتبع أي مذهب معتبراً أقرب إلينا من غيره.....
وسوف نرى نزاعاً بين مسلمين مخلصين وبين الحكومات التي يخضعون لها، إن هذا النزاع لابد أن يدرس بأناة وصدق، وأن نحدِّد موقفنا منه بما يرضي الله، مع بذل الجهد في عدم إحراج السلطات التي نعيش في ظلها...


لنفرض جدلاً أن نقرأ من المؤمنين رفضوا في بلادهم قانوناً بتحليل الخمر أو قانوناً بتسوية الذكور والإناث في الميراث، إن هؤلاء الرافضين يعدون في بلادهم متمرِّدين أو متطرفين، فهل نعدُّهم نحن كذلك؟ ونحثو في وجوههم التراب؟ أم نفتح لهم قلوبنا ونوسع لهم بيننا؟


إنَّ العلاقات الرسميَّة بين الدول لا يجوز أن تكون سبباً في تفويض الإسلام ونقض دعائمه.
والتضامن الواجب بين المسلمين جميعاً يفرض علينا أن نتصل بالمجاهدين من كل نوع؛ لنرشدهم إلى أنجح الوسائل، ولننهضهم إذا كبوا، ولنؤْنسهم إذا استوحشوا، وندعمهم إذا استضعفوا...


وثمَّ سؤال لأغنياء المسلمين؟ إن أمريكا لا تمنح عونها إلا من يتجاوبون معها، ويقبلون سياستها، وكذلك يفعل الروس فما هو الأساس للعون الإسلامي الذي يبذل لكثيرين دون سبب واضح؟


هناك دول تقتل المجاهدين، أو تقيِّد حرياتهم، أو تتبنَّى معتقدات إلحادية، وتغرسها بالسلاح، كيف ينال هؤلاء قليلاً أو كثيراً من المال الإسلامي؟
ونحن نعرف أن الدول التي تشجِّع الهجرة إلى أرضها تغلق الأبواب في وجوه المسلمين الوافدين، فلماذا لا نعاملها بالمثل؟
أما آن الأوان لوضع قوانين أو تقاليد للعمالة المنتشرة بين دول الخليج كلها، حتى تشعر الدول التي تكثر فيها المذابح بين المسلمين أنها مؤاخذة بهذه الهمجية؟


إننا –دون تشريع قائم – كان يجب أن نؤْثر إخوان العقيدة، وأن نهدم المعابر التي أقامها التبشير في بعض الأقطار عن طريق الأيدي العاملة غير المسلمة، لكن الذي يقع يستدعي العجب، فالعامل الأجنبي يجيء إلى أيِّ بلد عربي، فبدل أن يتقن لغة القوم الذين ضمنوا معايشه، يريد بوقاحة أن ينقل الناس إلى لغته الأصلية أو إلى اللغة الانجليزية التي استعمرت بلاده، وقد يبقى سنين طويلة لا يفكر أبداً في تعلم العربية أو احترامها واحترام الناطقين بها...


وأختم كلمتي باقتراحين وجيزين:
الأول: إنشاء مكاتب في وزارات الخارجية العربية للعناية بالقضايا والأقليات الإسلامية واتِّخاذ مواقف إيجابية فيها.
الثاني: مضاعفة الجهد في وزارات الإعلام لجعل البرامج الموجهة على درجة من الكفاية الثقافية؛ لتستطيع خدمة اللغة العربية وتعليمها لمن يجعلونها، وكذلك لدعم القيم الدينية، ورد الشبهات التي تثار حولها، والله ولي التوفيق.


وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين