خُطوات الهجرةِ وأنوارُ الهداية .!

د عبد المجيد البيانوني
عضو رابطة العلماء السوريين
 
كان في طريق الهجرة ، تَكتبُ خطواتُه حُروفَ المجد بنور الوحي ، وتنشر أمامه عبق الهداية قبل أن يرى الناس إشراقة وجهه ، وسنا صورته ..
 
يتهادى في الصحراء ، فتشعّ ذرّات الرمل من حوله ، وتحت قدميه نوراً ، وتتلألأ جذلى بمروره ، وكأنّها قطع من الذهب ، تتراقص على أشعّة الشمس .. فتنشرح الصدور ، وتنجلي الهموم ، ويرى كلّ من يلقاه نور الله يهدى إلى الإنسان ، الذي أمضّه الجهل والضياع في هذه الأرض ، كضياع التائه في الصحراء بغير دليل ..
 
كان نوراً ربّانيّاً يسري في ظلمات الجاهليّة ، فيزلزل أركانها ، ويحطّم كيانها ، بعدما مزّقت حياة الإنسان وضيّعت عقله ورشده ، بين هواجس الخوف ، وأصنام الخرافة والوهم .. وأين خطوات الإنسان من سرعة الضوء وهجمة النور .؟!
 
ما التقاه في رحلة الهجرة المباركة ركب إلاّ هاله نوره ، قبل أن يستبين ملامح شخصه ، وما تحرّك ركبه في أمواج السراب إلاّ وتحرّك معه موكب من جند السماء يزفّه إثر موكب ، مع روح من السكينة تغمرها الرحمة ، فتسبق هيبة عزّه حركة قدميه ، ويتطلّع القريب والبعيد للتعرّف عليه ، والمثول بين يديه ..
 
وسبقت السعادة الأبديّة لتلك السيّدة العربيّة ، العاقلة الفطِنة ، أمّ مَعبَدٍ الخُزاعيّة ، أن يمرّ بمنزلها ، وتكون لها معه هذه القصّة ، التي جمعت لها بين دلائل النبوّة المادّيّة ، وبركات النور والهداية ، فكان لها الحظّ الأوفى من السعادة بلقائه ..
 
عَنْ حُبَيْش بن خَالِدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ ، صَاحِبِ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ ، وَخَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا إِلَى المَدِينَةِ ، وَهُوَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ ، وَمَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ ، ودَلِيلُهُمَا اللَّيْثِيُّ عَبْدُالله بن الأُرَيْقِطِ ، مَرُّوا عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةِ .
 
وَكَانَتْ بَرْزَةً ـ كبيرة السنّ لا تحتجب احتجاب الشابّات ـ جَلْدَةَ ـ جلدة : قويّة ـ تَحْتَبِي بِفِنَاءِ الْقُبَّةِ ، ثُمَّ تَسْقِي وَتُطْعِمُ ، فَسَأَلُوهَا لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوهُ مِنْهَا ، فَلَمْ يُصِيبُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَكَانَ القَوْمُ مُرْمِلِينَ ـ فقراء قد نفد زادهم ـ مُسْنِتِينَ ـ أي أصابتهم سَنة ، أي قحط وجدب ـ ، فقَالت : والله لو كان عندنا شَيءٌ ما أعوزناكم ـ أي ما أحوجناكم لطلب الشراء ، بل قدّمنا لكم الضيافة ـ فَنَظَرَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الخَيْمَةِ ـ أي جانبها ـ ، فَقَالَ : " مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ؟ " قَالَتْ : خَلَّفَهَا الجَهْدُ عَنِ الغَنَمِ ـ أي الضعف والهزال ـ ، قَالَ : " فَهَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ ؟ " , قَالَتْ : هِي أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : " أَتَأْذَنِينَ أَنْ أَحْلُبَهَا ؟ " , قَالَتْ : بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، نَعَمْ إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْبًا فَاحْلُبْهَا ، فوالله ما ضربها فحلٌ قطُّ ـ أي ما ألقحها ـ فَدَعَا بِهَا رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، " فَمَسَحَ بِيَدِهِ ضَرْعَهَا وَسَمَّى الله عَزَّ وَجَلَّ ، وَدَعَا لَهَا فِي شَاتِها ، فَتَفَاجَّتْ عَلَيْهِ ـ أي فتحت ما بين رجليها للحلب ـ وَدَرَّتْ ، واجْتَرَّتْ .
 
وَدَعَا بِإِنَاءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ فَحَلَبَ فِيهَا ثَجًّا حَتَّى عَلاهُ البَهَاءُ ، ثُمَّ سَقَاهَا حَتَّى رَوِيَتْ ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوَوْا ، وَشَرِبَ آخِرَهُمْ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقال : " ساقي القوم آخرهم شرباً " ، ثُمَّ أَرَاضُوا ، ثُمَّ حَلَبَ فِيهَا ثَانِيًا بَعْدَ بَدْءٍ ، حَتَّى مَلأَ الإِنَاءَ ، ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا ، ثُمَّ بَايَعَهَا وارْتَحَلُوا عَنْهَا " .
 
تقول أمّ معبد : بقيت الشاة التي لمس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضرعها عندنا حتّى كان زمان الرمادة ، وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة ، زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وكنّا نحلبها صبوحاً وغبوقاً ، وما في الأرض قليل ولا كثير " .
 
وقال هشام بن حبيش : " أنا رأيت الشاة ، وإنّها لتأدم أمّ معبد ، وجميع صِرمتها ، أي أهل ذلك الماء .
فَقَلَّمَا لَبِثَتْ حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكْنَ هُزْالاً ، مُخُّهُنَّ قَلِيلٌ ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو مَعْبَدٍ اللَّبَنَ عَجِبَ ، وَقَالَ : مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا اللَّبَنُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ؟ وَالشَّاةُ عَازِبٌ حِيَالٌ ، وَلا حَلُوبةَ فِي البَيْتِ ؟
قَالَتْ : لا وَالله إِلا أَنَّهُ مَرَّ بنا رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا .
أُمُّ مَعْبَدٍ تَصِفُ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
 
قَالَ : صِفِيهِ لِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ، قَالَتْ : « رَأَيْتُ رَجُلاً ظَاهَرَ الوَضَاءَةِ أَبْلَجَ الوَجْهِ حَسَنَ الخَلْقِ لَمْ تَعِبْهُ ثُحْلَةٌ ، وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ ، وَسِيمٌ ، فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ ، وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ ، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ ، أَزَجُّ أَقْرَنُ ، إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ الوَقَارُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلاهُ البَهَاءُ ، أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبَهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ ، وأَحْلاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ ، حُلْوُ المِنْطَقِ ، فَصْلٌ لا هَذِرٌ وَلا تَزِرٌ ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ ، رَبْعٌ لا يَأْسَ مِنْ طُولٍ ، وَلا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلاثَةِ مَنْظَرًا ، وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا ، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ ، إِنْ قَالَ أَنْصَتُوا لِقَوْلِهِ ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ ، مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ لا عَابِسٌ وَلا مُفَنَّدٌ » .
 
قَالَ أَبُو مَعْبَدٍ : هُوَ وَالله صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي ذُكِرَ لَنَا أَمْرُهُ مَا ذُكِرُ بِمَكَّةَ ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ ، وَلأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً " . المعجم الكبير للطبراني (4/ 51) وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (3/ 245) ومراجع أخرى .
 
هذه المرأة العربيّة الأصيلة ، وهي لم تتعلّم في مدرسة ، ولم تتخرّج في جامعة ، ولكنّها صدرت عن نور فطرتها ، وحرّيّة عقلها ، فسمت بها إلى نور الحقّ والهدى ، فأقبلت على الإسلام مهديّة راشدة .. شتّان بين هذه المرأة العربيّة الأصيلة ، اللبيبة الفطِنة ، وبين تلك المرأة المعاصرة ، المتغرّبة عن دينها ، المتنكّرة لتاريخها وثقافتها ، التي لا همّ لها في الحياة إلاّ التنافس في الاستهلاك ، والتباهي بالدنيا ، والتفاخر بالفرش والأثاث .. وتحسب أنّها قد حازت السعادة من أطرافها ..
 
المرأة اليوم يريد لها أعداء هذه الأمّة أن يجرّدوها من قيمها الإنسانيّة والإسلاميّة ، وأن تتخلّى عن رسالتها في الحياة ، فلا هدف ولا غاية .. إلاّ المأكل والمشرب والزينة .. وإلاّ أن تكون أداة من أدوات الإنتاج والاستهلاك ، وأن تصبح رقماً مادّيّاً ، بين العبيد في قطيع ، يضاف إلى الأرقام الصمّاء .. فهل لها أن تصحو على أمرها .؟! وتتدبّر ما يحاك لها .؟!
إنّا لنرجو لها ذلك ونتمنّاه .. والله الهادي إلى سواء السبيل ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين