خصال الروم وسنن التمكين

 

رغم هزيمتهم النكراء أمام إمبراطورية آسيا أعلن القرآن الكريم أن أبناء الإمبراطورية الأوربية سيستردون المبادرة ويحققون نصرا حاسما على أعدائهم في أقل من عشرة أعوام، وقد حدث ذلك،ويهمنا أن نسأل عن سر هذا التحول في ميزان القوى إلى ماذا يعود لنحفظ الدرس ونقتفي الأثر.

 

لعل هذا التساؤل قد راود الصحابة عليهم الرضوان، فقد روى الإمام مسلم أن المستورد القرشي ذكر أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”فاستوثقه عمرو بن العاص فأكد سماعه له ، عند ذلك قال عمرو وهو داهية خبير بمعادن الناس وأخلاق الشعوب:”إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم ضعيف، وخامسة حسنة: وأمنعهم من ظلم الملوك”.

 

لقد أذن الله للروم بالانتصار والتمكين لأن فيهم من الخصائص والصفات ما ينسجم وسنن النصر والتمكين،ولأمر ما فإن الحضارة الفارسية انهارت أمام الإسلام  بينما بقيت الحضارة الغربية قائمة إلى اليوم في امتدادها الأوروبي والأمريكي،وها نحن نرى فيهم بأنفسنا تلك الخصال التي ذكرها عمرو،تصيب مجتمعاتهم الفتن فلا تطيش عقولهم بل يواجهونها بالحكمة والحلم حتى تنقشع.

 

ونذكر كمثال على ذلك أحداث مايو 1968 بفرنسا والتي كانت “أزمة حضارية” كما قال أندري مالرو وتجاوزتها فرنسا واستفادت منها،وإذا داهمتهم مصيبة مزلزلة يبادرون إلى الإفاقة من هولها واستجماع قواهم وهاهم يمرون في أوربا بحربين كونيتين مدمرتين لكن سرعان ما أفاقوا ورجعوا إلى التعمير فبلغوا بسرعة مذهلة قمة التطور الاقتصادي والعلمي والتقني حتى لا تكاد تبقى بينهم في المجال النفسي الأدبي آثار للمصيبة العظمى التي ألمت بهم،ثم إنهم فعلا أوشك الناس كرة بعد فرة يحسنون فن الانهزام الظاهري والتراجع التكتيكي ريثما يبددون الشكوك أو يعدون ما استطاعوا من قوة فإذا بهم يقتحمون ميدان المنافسة العالمية اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا، ولعل ألمانيا ما بعد الحرب الثانية أحسن دليل على ذلك،فقد فرت من مجال البروز لسنوات حتى ظنها الجاهلون انسحبت نهائيا من السباق العالمي لكنها أحكمت القواعد وعادت بقوة أدهشت الملاحظين.

 

ولا يستطيع منصف أن ينكر تبوأ الأوربيين والأمريكيين-وهم من أصول أوربية أي رومية-مكان الصدارة في رعاية الشؤون الاجتماعية في بلدانهم حتى أن المساكين واليتامى والضعفاء يحظون بالإحاطة المادية والمعنوية من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني بشكل يغبطهم عليه الأغنياء عندنا،وأما الخصلة الخامسة فتكاد تكون هي الحاسمة إذ أنهم استطاعوا عبر أجيال من النضال الدموي المدعوم بالعمل الفكري المتواصل إرساء دعائم متينة لنظام حكم يخلصهم من شبح الاستبداد ودكتاتورية الملوك وهم اليوم في بلادهم أمنعهم من ظلم الحكام حتى صار النظام الملكي عندهم علما على العدل فضلا عن النظام الجمهوري.

 

إن الله تعالى ينبهنا في وعده “وهم من بعد غلبهم سيغلبون” ليس إلى تفوق عسكري ظرفي ولكن إلى سنن إنسانية ماضية يشيد على أساسها التفوق الحضاري وهي غلبة الحكمة في المجتمع وعدم الاستسلام للمصائب ومعاودة المحاولة في حال الفشل والتضامن الاجتماعي على أن تتصدرها جميعا الخصلة الحاسمة الممثلة في رفض الاستبداد وإقامة حكم الشعب “سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا”… فهل نعي الدرس أم نكتفي بتوعد الحضارة الغربية بالزوال لنبرر عجزنا نحن عن إقامة الحضارة البديلة؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين