حيرة الشباب المسلم... أسبابها وعلاجها

العلامة أبو الحسن الندوي

السؤال الأول: أستاذنا، العالم الإسلامي بأسره اليوم يعيش حيرة مردية، عقيدةً وتصوراً وسلوكاً، وأبرز ما تكون هذه الحيرة في الشباب المسلم في بلادنا خاصَّة، فنريد أن نعرف أولاً: ما هي الأسباب التي خلقت هذه الحيرة أو ساعدت على وجودها ؟.
إنَّ من أعظم الأسباب في هذه الحيرة التي يُعانيها الشباب المسلم بصفة خاصة وشباب العالم بصفة عامة، هو التناقض في التوجيه والإعلام والتربية، تناقض بين ما ورثوه وبين ما يَعيشونه، وبين ما يلقنونه تلقيناً وبين ما يطلبه منهم علماء الدين، هذا التناقض العجيب الذي سُلِّط عليهم ومُنوا به هو السر في هذه الحيرة، هذه الحيرة المردية.
هناك عقائد آمنوا بها كمسلم ولد في بيت إسلامي في أسرة إسلامية، ونشأ على كثير من العقائد وتلقَّاها بوعي أو بغير وعي، ثم إنَّه نشأ في بيئة دينية تؤمن بمبادئ الإسلام، وقرأ التاريخ الإسلامي ـ إذا أكرمه الله بذلك وتسنت له هذه الفرصة الكريمة ـ وكان سعيداً بوجوده في بيئة واعية دينية، ثم سبق - ومعذرتي إلى اختيار هذه الكلمة، لأنه لا يزال في سن مبكرة وليس له خيار - إلى دور ثقافة يسمع فيها من أولئك الأساتذة - الذين يجلهم؛ لأنهم أصحاب اختصاص وأصحاب دعامة في كثير من العلوم - كل ما ينقض ما أبرمته البيئة وكل ما غرسته في قلبه وعقله من التربية الإسلامية، يسمع ويرى ما ينفي كل ذلك أو ما يُقلِّل قيمته على الأقل، فيقع في تناقض عجيب وصراع فكري عنيف، وهذا الصراع الفكري يدوم معه إلى أن يشاء الله، أو تحدث معجزة، إنها معجزة حقاً في هذه البيئة التي نَعيش فيها، صراع من أدق أنواع الصراع ومن أصعب أنواعه، الصراع بين القوى المتعارضة.
إنَّه قد يواجه الصراع في ساحة القتال، ومدة ساعة القتال قصيرة وإن طالت، ولكن هذا الصراع يُعالجه دائماً، إنه يعالجه في المسجد، ويعالجه في المدرسة، ويعالجه في البيت، ويعالجه فيما بينه وبين نفسه، هذا الصراع المرير الهائل العميق يتلقى من مؤسسة الإعلام ومؤسسة الصحافة بالمعنى العام، ومن التلفزيون الذي جاء حديثاً، يسمعون إذاعات وأحاديث وبرامج تقضي على البقية الباقية من آثار التربية القديمة وتحدث فيهم ثورة فكرية وقلقاً نفسياً، والصحافة التي هي: صاحبة الجلالة، في نظر كثير من الناس تقدم إليهم في أول النهار الغذاء الفاسد العفن، والمواد المثيرة المهيجة للعواطف ـ قبل أن يكسر الصفرا على تعبير إخواننا السوريين ـ وقبل أن يتلو شيئاً من القرآن، فأول ما يقع عليه نظرهم صورة عارية لفتاة، وعناوين مُثيرة للغرائز أو مُقالات مُثيرة للشكوك مزعزعة للإيمان والثقة، فيتلقون هذا في رغبة ونهامة، وفي شوق واستجابة، إنه يقع في أيديهم كتب علمية لها عناوين هائلة، وأسماء مُرعبة صادرة من أناس آمنوا بفضلهم وعبقريتهم فيرون ما يشككهم في الدين، يشككهم في التاريخ الإسلامي، يشككهم في مصادر الشريعة الإسلامية، وحتى في مصادر اللغة والأدب الأولى، ويشككهم في صلاحيَّة هذه الأمَّة، وفي خلود الرسالة التي يحملونها، يشككهم في صلاحية اللغة العربية، فيتلقون هذا المزيج العجيب، وهذه الخميرة العجيبة، من أفكار ومبادئ وإغراءات ومن نظريات علميَّة، ويقعون من كل ذلك في حيرة لا تعدلها حيرة، فخليق بكل هذا أن يوقع الإنسان ـ وإن كان ناضج الفكرة، مختمر العقل حصيف الرأي ـ في حيرة، فكيف بالشباب الغض الناعم، وكيف بهذه البراعم الناعمة التي لم تتفتح بعد، كيف يُرجى منهم أن يقفوا أمام التيارات المُتصارعة.
إن مثل ذلك ـ أيها السادة ـ كمثل عجلة أو مركبة ركب فيها فرس في الأمام، وركب فيها فرس في الوراء وكلاهما قويان، فكما أن هذه العجلة من المعقول جداً أن يكون ركابها في حيرة من أمرهم، هذا يجرها إلى الأمام، وهذا يجرها إلى الوراء، فكذلك الشباب يتأرجحون في أرجوحة يميناً وشمالاً.
إنَّ الأدب الذي لم يزل يواجهنا منذ خمسين سنة على الأقل من العواصم العربية الكبرى، التي كان لها التوجيه وكانت لها الزعامة الفكرية والدينية، وهذه غَرست في قلوب الناشئة وفي قلوب الشباب، بل في قلوب كثير من الكهول بذوراً من الشك والاضطراب، تشككوا حتى في وجودهم، تشككوا في كل ما تواتر واستفاض وأصبح من قبيل البديهيات، إنَّ هذه الكتب التي أُريد من ورائها رزق أو شهرة، أو زعامة فكريَّة، أو هتاف أو تصفيق حاد، إنَّ هذه كلها غرست في قلوب شبابنا الشك والحيرة والتناقض، فأنا لا أستغرب هذا الوضع، وهذا هو السبب الرئيسي والسر في حيرة الشباب.
ثم وجه الأستاذ سؤالاً ثانياً، وهو: ما هو العلاج الصحيح لهذه الحيرة التي يقع فيها الشباب؟
وكان جوابي على ذلك: إنني أعتقد أن أول خطوة نخطوها نحو إنقاذ الشباب من هذه الحيرة المردية هي توحيد نظام التعليم، ولستم في حاجة إلى شرح هذه النقطة، إن المعسكر التعليمي موزع بين قسمين، المعسكر الديني، والمعسكر اللاديني أو العلماني، أو المعسكر القديم، والمعسكر الجديد، وهذه الثنوية أو الازدواجية في التعليم هي السبب الأكبر في خلق هذه الحيرة التي يعيشها الشباب، فأول خطوة نخطوها نحو الغاية الصحيحة لإزالة هذه الحيرة، هي: تنسيق غايات التعليم ومواد التعليم، لا أعني بالتنسيق بين تعليم قطر وبين تعليم قطر آخر، إنما أعني به التنسيق في تعليم القطر، فهنالك كما قلت تناقض في المواد الدراسية، فالذي يَبنيه تعليم يهدمه تعليم آخر، والعلوم التي لم تكن لها صلة بالعقائد أصبح لها اتصال بالعقائد، وما أصبح التعليم مجرداً، إنَّ الاعتقاد بأن من التعليم ما هو محايد وما هو نزيه كل النزاهة، وما هو بعيد كل البعد عن التأثير في العقيدة قد أصبح نظرية قديمة ولا نصيب لها من الصحة.
الخطوة الأولى: الخطوة الثوريَّة الجذرية هي إحداث تَنسيق في نظام التعليم، فلا قديم ولا جديد، ولا ديني بالمعنى اللاهوتي، وبالمعنى الكهنوتي المسيحي الأوروبي، لا بالمعنى الإسلامي الصحيح، فلا تعليم لاهوتي ولا تعليم دنيوي أو زمني أو علماني، بل التعليم وحدة لا تتجزأ، إنما ينقسم بين غايات ووسائل ولابد أن تكون بين هذه الوسائل وحدة تربطها وتخضعها للغاية الأساسية.
ثم إزالة هذا التناقض الذي يعبر عنه لسان الشريعة، ولسان القرآن بكلمة: النفاق، إن هذا يحتاج إلى قلب نظام التعليم رأساً على عقب، يعني إحداث نظام تعليمي كوحدة مُتكاملة مُتناسقة، وهذا يحتاج إلى ثورة عَارمة، إلى ثورة جريئة ودقيقة وشاملة، ويحتاج طبعاً إلى أناس عندهم الأصالة الفكرية، لا يعيشون مُتطفلين على مائدة الغرب.
إنَّه يحتاج إلى الاجتهاد في المواد الدراسية، وهذا يحتاج طبعاً إلى مشاريع عملاقة، وإلى جهود كبيرة واسعة النطاق عميقة الجذور، ويحتاج كذلك إلى أن تتبنَّاها الحكوماتُ الإسلاميَّة والمجامع الإسلاميَّة الكبيرة، فإذا نجحنا في تطوير نظام التعليم تطويراً جديداً، وإذا نجحنا في إزالة النفاق عن هذا المُجتمع الذي نَعيش فيه، إذن من المؤمَّل أن تنقذ الشباب من هذه الحيرة المردية.
ـ لعل أستاذنا أبا الحسن يبين لنا الدور الإيجابي الذي ينبغي للدولة أن تقدمه لهذه المؤسسات، حتى يتم التناسق الصحيح بين هذه المؤسسات كلها.
وكان جوابي على ذلك: في الحقيقة إن دور الدولة عظيم وحاسم في إزالة هذه العوامل الهدامة وفي ردِّ المجتمع إلى حياة سليمة لا صراع فيها ولا حيرة، ولكن هذا يتوقف على أن تكون عند الدولة فكرة واضحة ـ لست أعني دولة دون دولة ولا أعرض بدولة ـ إنما هي موضوع علمي، فكرة واضحة عن الدين الذي تؤمن به وتدين، وعن الأهداف التي تتبنَّاها وتُريد أن تَعيش هذه الأهداف، ولا تعيش فقط بل تَنمو وتَزدهر، وإذا آثرنا التعبيرَ الإسلامي الديني، قلنا: الإيمان والعقيدة، إيمانٌ رَاسخ، وعقيدة جازمة بفضل الإسلام، أو بفضل الأهداف التي تدعو إليها وتَعيش لها، وأن تكون مُتمسِّكة بمبدأ الهداية لا الجباية( ).
ثم الإخلاص والعزم الصادق والتضحية التي لا غنى عنها، هذه كلها عوامل لوجود بيئة مُناسبة أو الأجواء المناسبة لنمو الشخصيَّة الإسلاميَّة وإكمالها ووصلوها إلى الغاية المطلوبة.
ثم ختم الندوة بالسؤال الأخير وهو: ونترك في الختام التعليق على هذه الخطوة الأخيرة للأستاذ أبي الحسن صاحب التجارب الكثيرة التي مرَّ بها في دور الشباب والكهولة، وهو الآن في دور الشيخوخة، ولابد أخيراً من نصيحة فيها إلى الشباب بارك الله فيه.
قلتُ: لست مُتشائماً ولا يائساً من دور الشباب ومن صلاحيتهم ومن حرصهم أن يعملوا شيئاً في مجال الدعوة الإسلاميَّة، والفكرة الإسلامية، وفي أن يمثلوا دورهم كشباب مُسلم في هذا المعترك الفكري الذي لم يشاهد تاريخ الإنسانية مُعْتركاً فكرياً مثله، إنَّ الشباب طبقات وأقسام كثيرة وليس هناك طراز واحد من الشباب.
إننا شاهدنا عدداً كبيراً من الشباب يتلهَّفون شوقاً إلى أن يلعبوا دورهم، وهم في استعداد تام وعندهم التألم الشديد مما هو واقع حولهم، إنَّ هؤلاء الشباب هم أمل اليوم وجيل المستقبل، وفي الحقيقة إن الشباب هم الذين يستطيعون أن يحولوا هذا التيار، وعندي من المعلومات ما تؤكد لي أنَّ في الشباب مجالاً واسعاً للعمل الإسلامي والفكر الإسلامي، وعندهم قلق والقلق أول خطوات النمو والتقدم والتحسن، إنَّ الشباب قلقون اليوم، وإنَّ الحضارة الغربية قد عجزت عن تسليتهم وإرضائهم، وإن هنالك فراغاً لم يملأ ولا يمكن أن يملأ كما تفضَّل الأستاذ كامل الشريف، إنَّ هنالك ديناً واحداً يستطيع أن يملأ الفراغ الهائل الذي أحدثته أوروبا بين القلب والروح والجسم والمادة، وهذا من خصائص الحضارة الغربية التي لها تجارب خاصة، ومراحل معينة مرَّت بها في رحلتها الطويلة، ولكن ـ مع الأسف الشديد ومن سوء حظ الإنسانية ـ لما آلت القيادة إلى أوروبا أثرت هذه التجارب في تفكير الأمم التي كانت في عزلة عن هذه التجارب، تجارب مجتمع خاص، كانت لدينه طبيعة خاصة، وقد حدث فيه صراع بين الكنيسة والحكم، وصراع بين تعليم الدين، وصراع بين الكهنوت والعقل السليم والعلم الحديث، هذا كله من تجارب الغرب، وكان الشرق غنيَّاً عن هذه التجارب، لم يكن منها في عير ولا نفير، ولكن فرض الغرب وفرضت الثقافة الغربية هذه التجارب وانطباعات هذه التجارب، ومردود هذه التجارب، وقيمة هذه التجارب، فنظرية الدين قضية شخصيَّة، والفصل بين الدين والسياسة، هذه كلها تجارب الأمم الأوروبية لظروف خاصَّة، وأجواء خاصَّة وللطبيعة المسيحية التي دانت بها أوروبا، ولكنها قد أشركت فيها الشعوب الشرقيَّة من غير سبب ومن غير مُبرِّر، فهذا الفراغ موجود في الشباب، والشباب بدأوا يشعرون بهذه الفراغ، إنَّ ما نُشاهده من انحرافات وشذوذ ومن مُبالغات ومن تطرُّف في حياة الشباب، كل ذلك شعور لهذا الفراغ، وإنني أستطيع أن أقولَ في ضوء تجاربي ومُشَاهداتي في الشرق وفي آسيا، أنَّ الشباب فيهم قابليَّة واستعداد كبير ليكونوا قادة حركة جديدة، وليخوضوا هذه المعركة.
ولكننا نَعيش في عُزلة عن الشباب وعندنا كثير من سوء تَفَاهم، ومن إساءة ظن ومن جهل للوضع الذي يعيش فيه الشباب، فإذا ملئت هذه الفجوة بين الكهول والشباب، وبين الدعاة إلى الدين وبين الشباب الجامعيين والشباب المثقفين بالثقافة الغربية، يمكن أن نجر عدداً كبيراً ونجعلهم مُقْتنعين مُسْتجيبين لهذه الدعوة مُتحمسين لها، ولكن ذلك يحتاج إلى مخططات دقيقة عميقة، مخططات علمية مدروسة، يحتاج ذلك إلى مكتبة جديدة، يحتاج ذلك إلى أسلوب جديد في الحديث مع الشباب، يحتاج ذلك إلى الحكمة التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله:[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ] {النحل:125}.
يحتاج ذلك إلى أن تكون عندنا أقلام قوية بَليغة، وأن تكون عندنا تلك المقدرة البيانيَّة والطلاوة الأدبيَّة، وحلاوة التعبير التي لا يمكن لدعوة أن تشق طريقها إلى الأمام، وأن تنفذ في عقول الشباب وفي نفوسهم عن غير هذا الطريق.
إننا نرى ـ مع الأسف الشديد ـ أن كثيراً من علمائنا الأفاضل يَعتبرون التضلُّع في آداب اللغة، والحصول على تلك المقدرة البيانية الأسلوب البليغ الذي يدخل إلى قرارة النفوس من فضول واجبات العلماء وعلى هامشها، وقد يعتبرون ذلك ابتعاداً عن وظيفتهم وانحرافاً عن جادتهم، مع أننا نرى أنَّ القرآن نوَّه بهذه الحقيقة وكلنا نؤمن أنَّ الله سبحانه وتعالى هو أغنى الأغنياء، ولكنه أنزل كتابه في أسلوب معجز، وفي لسان عربي مُبين، ولم ينزل في لسان عربي مبين فحسب بل نوه بهذه الناحية في غير موضع من مَواضع القرآن، فقال: [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ] {الشعراء:195}. [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] {يوسف:2}.
فمعنى ذلك أنَّ ناحية اللفظ وناحية الأسلوب وناحية البلاغة ناحية مهمَّة، وإذا رجعنا إلى تاريخ الإصلاح والتجديد رأينا أنَّ الذين كانوا على قمَّة الإخلاص وعلى ذروة الانقطاع إلى الله وإلى الربانيَّة الصادقة، كانوا لا يستهينون بهذه الناحية، إنما كانوا يهتمون بها كل الاهتمام. ولا نضرب المثل بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء من غير شك، وهذا معروف عند الجميع.
ولكنني أضرب المثل بسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنَّه كان في قمَّة من البلاغة ونُواصل سيرنا إلى آخر القرون الإسلامية، فنرى أنَّ من تبوَّأ القيادة أو الزعامة في الدعوة الإسلامية كانوا على جانب عظيم من البلاغة ومن فهم نفسية المخاطبين، إنني في الحقيقة أوخذ بالحيرة إذا قرأت خطب سيدنا عبد القادر الجيلاني، فأنا أرى أنَّ هذا الرجل الذي اشتهرَ في العالم كله، وفي جميع العصور بزهده وبقناعته، وبربانيَّته، وبإشراقه وتبتُّله، إنَّه يخاطب الجيل المُعَاصر والمجتمع الذي كان يَعيش فيه في بغداد: البلد الذي وُلد فيه الحريري، وولد فيه ابن الجوزي: ووُلِد فيه الصابي، وولد فيه هؤلاء الشعراء، وتغنَّى فيه البحتري، والشريف الرضي، والمتنبي، وأبو تمام، والمعري.
كانت بغداد عاصمة عالم الإسلام ومركز الخلافة العباسيَّة، كانت محط كل عبقري من جميع الأصناف، فسيدنا عبد القادر الكيلاني نراه يخاطب الجيل المعاصر في بغداد بلسان يحلِّق في البلاغة، ويُخاطبهم بأسلوب ساحر، بأسلوب يبلغ إلى الأعماق، بأسلوب لا تزال له الصولة إلى الآن، وإذا قرأنا خطبه التي دوَّنَها المدوِّنون، وحرصوا على نقل اللفظ الصحيح لاعتقادهم أنَّ ما يصدر من القلب يدخل في القلب أقررنا بهذه الحقيقة، وهذا كان من دواعي الحرص على نقل الكلام بالحرف.
وهذا كله يُعطيه الفكرة عن أهميَّة الأدب والأسلوب، إننا إذا أردنا أن نوجِّه الشباب التوجيه الإسلامي العميق، فعلينا أن نتسلَّح لذلك، وأن نعدَّ له عُدَّته، وأن نستوفي تلك الشروط التي كانت لكل زمان ومَكان، وهي لا تُزال لها قيمتها وأهميتها وتأثيرها، وهو إحداث مَكتبة إسلاميَّة علميَّة، تلائم عقلية الشباب وتؤثر فيها، ويتقبَّلها الشباب بقبول حسن بل يتشوَّقون إليها ويمدون إليها أيديهم، فإذا وفينا هذه الشروط فإني واثق بأن الشباب مستعدون ليكونوا: لا مؤمنين بهذه الفكرة فحسب، بل دعاة مُتحمِّسين لهذه الفكرة والدعوة مُتفانين فيها، مُتهالكين عليها، لا يَعْدِلون بها شيئاً.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
مجلة الأزهر، السنة الخمسين، شعبان 1397هـ ، الجزء الرابع.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين