أسئلة بيانية (30) حول قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} ونُظرائها

قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 51].

وقال سبحانه في سورة الأنعام أيضاً: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ [الأنعام: 70].

وقال تعالى في سورة السجدة: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ [السجدة: 3-4].

سؤال:

لماذا قال تعالى في آيتي الأنعام: ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ و: ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ فنفى بـ (ليس).

وقال في آية السجدة: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ فنفى بـ (ما) وجاء معها بـ (من)؟

الجواب:

إن النفي في آية سورة السجدة أقوى منه في آيتي الأنعام ذلك أن آيتي الأنعام من الجمل الفعلية، فهي مبدوءة بـ (ليس)، و (ليس) فعل.

وأما آية سورة السجدة فهي جملة اسمية منفية بـ (ما)، ومعلوم أن الجمل الاسمية أقوى من الفعلية، و (ما) أقوى من (ليس) [انظر معاني النحو 1/272 وما بعدها].

هذا علاوة على المجيء مع ذلك بـ (من) الاستغراقيَّة التي تُفيد نفي الجنس وتُفيد التوكيد مع ذلك، فهي تُفيد نفي الولي والشفيع على سبيل الاستغراق.

وأما سبب ذلك والله أعلم فإن الكلام في آيتي الأنعام على أصناف خاصَّة من الناس.

فإنَّ الإنذار في الآية الأولى للذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم على هذه الحالة، وهناك غيرهم كثير من غير هذا الصنف، فإنَّ هناك مَن لا يؤمن أصلاً باليوم الآخر، ولا يخاف الحشر، وهناك أصناف آخرون غير هؤلاء.

وأما الآية الثانية فإنَّ التذكير فيها لنفي مخافة أن تؤخذ بجريرتها وتُسلم بذنبها وتفضح به، وذكر من حالة هذا الصنف بقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام: 70].

وأما آية سورة السجدة فالخطاب لعموم مَن يصح خطابه من الثقلين لا يخص صنفاً دون صنف ولا واحداً دون آخر، وإنما هو خطاب عام يعم الجميع فقد قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة: 4]. فلم يذكر صفة معيَّنة ولا صنفاً خاصَّاً.

فلما عمَّ ذلك الجميع احتاج إلى التوكيد ولا شك، فإنه جارٍ في العادة أن يكون للشخص وليٌّ واحد، أو أن يكون لمجموعة من الناس ولي واحد، أما ألاَّ يكون للخلق جميعاً إلا ولي واحد وليس لأحد منهم ولي غيره فهذا يحتاج إلى التوكيد فأكَّده بالجملة الاسمية و (من) الاستغراقيَّة.

هذا أمر...

والأمر الآخر: أنه سبحانه لم يذكر في آيتي سورة الأنعام شيئاً من صفات الله تعالى، وإنما ذكر اسمه العلم في آية فقال: ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وأعاد الضمير على الرب تعالى في الآية الأخرى، فقال: ﴿لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام: 51].

وأما في آية سورة السجدة فذكر له صفات عظيمة، فقال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة: 4].

وقال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 5].

وقال سبحانه: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة: 6-7].

ويستمر في ذكر صفاته العظيمة وقدرته التي لا تُحد.

فناسب ذلك أن يؤكد أنه ليس للخلق من دونه ولي ولا من دون رضاه شفيع، وإنما هو الولي الأوحد للخلق أجمعين.

قد تقول: ولكنه ذكر من صفات المعصية والضلال في آيتي سورة الأنعام ما لم يذكره في آية سورة السجدة، أفلا يقتضي ذلك توكيد نفي الولي والشفيع؟

والجواب:

أن ليس الأمر كما توهمت بل لقد ذكر في سياق آية سورة السجدة من المعصية والكفر ما لم يذكر في آيتي سورة الأنعام.

فقد قال تعالى في آية سورة الأنعام: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ [الأنعام: 51].

فلم يذكر لهم معصية وإنما قال عنهم إنهم يخافون أن يحشروا إلى ربهم في هذه الحال، ومعنى ذلك أنهم مقرِّون بالحشر معترفون به يخافون ربهم ويخافون أن يحشروا، وليس لهممن دون الله ولي ولا شفيع، وهذا ليس معصية ولا ذنباً.

وأما آية سورة الأنعام الأخرى فإنه قال فيها: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا [الأنعام: 70] أي: اتركهم، وذكّرْ به: أي بالقرآن مخافة أن تؤخذ نفس بجريرتها وتجزى بكسبها، ولم يذكر لها ذنباً، وأما الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً فأمر بتركهم.

وأما آية سورة السجدة فإنها في سياق من يَنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكذب وافتراء القرآن وفيمن ينكر الحشر والمعاد، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [السجدة: 3]. فنسبوا إليه صلى الله عليه وآله وسلم افتراء القرآن أي: كذبه على الله تعالى، وقال عنهم: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة: 10].

فهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنكروا الحشر والمعاد، ولا شك أن هذا أكبر مما ذُكر في آيتي سورة الأنعام، فاقتضى السياق توكيد نفي الولي والشفيع من دون الله وطاعته ورضاه تعالى من هذه الجهة أيضاً، فاقتضى توكيد ذلك في آية سورة السجدة من كل وجه، والله أعلم.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين