حول قوانين التهجير والتغيير السكاني
نص الاستشارة :
أصدر النظام عدة قوانين لما زعم أنه إعادة تنظيم إعمار المناطق المهدّمة بسبب الحرب بعد تهجير أهلها منها، وكان آخرها ما عرف باسم القانون رقم 10، فما الموقف الشرعي من هذه القوانين؟ وما أحكام التعامل مع هذه العقارات؟
الاجابة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فمنذ أكثر من نصف قرن والنظام يصدر القوانين والمراسيم التي تثبّت أركان حكمه وترسخ تصرفاته على الأرض، كان آخرها المرسوم رقم 10 لعام 2018م، والذي يجيز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، وبعد الرجوع إلى المختصين القانونيين مِن قضاة ومحامين وسياسيين تأكّد لدى المجلس أنّ هذه القوانين هدفها إكمال ما بدأته الآلة العسكرية، مِن إحداث التغيير السكاني في المناطق السّنية، وشرعنة جرائم التهجير القسري وتثبيت آثارها، وفتح المجال لتملّك هذه المناطق مِن المتحالفين ضدّ الشعب السوري عبر تدعيم مواقعهم حول المناطق السنية بأحزمة طائفية وشيعية مجلوبة من إيران والعراق وغيرها تُكمل ما بدأه أعداء الشعب مِن الضباط والشبيحة في استيلائهم على آلاف العقارات والأوقاف خلال العقود الماضية بمختلف الأساليب، وإن هذه القوانين تتيح الفرصة لكلِّ مدّعٍ ليسلب أموال المهجّرين واللاجئين بأدوات قانونية، ورسالة إلى المهجّرين بأنّ أملاكهم العقارية ستؤول إلى المالكين الجدد الذين ساندوا النظام، وتقديمها مكافأة لهم على ما قدموه للنظام في معركته ضدّ الشعب.
وبناء عليه فإنّ مجلس الافتاء يقرر ما يلي:
أولاً: اتفقت الشرائع السماوية والقوانين الأرضية والعهود والمواثيق الدولية على اعتبار الملكية الفردية واحترامها، وعدم جواز المساس بها، أو الاعتداء عليها، فأملاكُ المعصومين مِن المسلمين وغيرهم وعقاراتهم التي يقيمون بها، أو التي هُجّروا منها ثابتة لهم شرعاً، لا يجوز نزعها منهم ولا مصادرتها، وبهذا جاءت جميع الشرائع والقوانين، ولا يلزمهم إثبات ملكيتهم لها بوثائق أو أوراق معينة يمكن أن تكون قد فُقدت في ظروف استثنائية خلال المعارك أو التهجير، ما دامت ثابتةً لهم بالسكن، أو شهادة الشهود، أو غير ذلك مِن الطرق المتعارف عليها، وهذه الأحكام ثابتةٌ مهما طال الزمن وتغيرت الأحوال، لا تسقط بمرور الوقت ولا تقادم الأزمان، ولا تغير القوانين والأنظمة والحكومات، وما يحدث مِن ضياعٍ أو فَقدٍ لبعض المستندات بسبب الحرب لا يترتّب عليه زوالُ الملكية، ولا يجوّز نزعَ العقارات والأملاك ولا مصادرتها فضلاً عن سنّ قوانين تجرد مالكها منها، وكذلك لا يجوز وضع اشتراطات تعجيزية للملّاك والمهجّرين لتثبيت ملكيتهم لعقاراتهم، مع عدم اعتبار الظروف الطارئة التي تُراعى في جميع القوانين والأعراف.
فإصدار هذه القوانين وما في معناها يعتبر جريمة وانتهاكاً لحقوق الإنسان في التملّك والحفاظ على أملاكه التي اتفقت عليها الشرائع والقوانين، ولـمّا طرد المسلمون جيوش التتار مِن بلاد الشام في عصر السلطان الظاهر بيبرس زعم وكيلُ بيت المال أنّ كثيراً مِن بساتين الشام مِن أملاك الدولة، فأمر الملك بالحُوطة عليها -أي بحجزها- حتى يُثبت مَن يضع يدَه عليها أنّ هذه الأملاك له، فلجأ الناسُ إلى الإمام النووي، فكتب إلى السلطان كتاباً جاء فيه: (وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواعٌ مِن الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثباتٌ لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحلّ عند أحد مِن علماء المسلمين، بل مَن في يده شيء فهو ملكُه، لا يحلّ الاعتراض عليه، ولا يُكلَّفُ إثباته) ذكره الحافظ السخاوي في ترجمة الإمام النووي المسماة «المنهل العذب الروي».
ثانياً: ما يؤخذ مِن عقارات المعصومين وأملاكهم، وما يُنزع منهم بأمثال هذه القوانين فهي أملاكٌ مغصوبة، وأموالٌ منهوبة، والغصبُ مِن أعظم أنواع أكل المال بالباطل، وأشدّها جرماً، وقد قرر الفقهاءُ أنّ المالَ المغصوب واجبُ الردِّ إلى صاحبه مهما طال الوقت، وأنّ كلّ ما يُجريه المغتصب على العقار المغصوب مِن تغييرات وإضافات فإنَّه لا يُسقط حقَّ مالكه فيه، وعليه فجميع أحكام الغصب التي ذكرها الفقهاء جاريةٌ على هذه العقارات المنتزعة بهذه القوانين.
ثالثاً: لا يجوز لأحدٍ مِن المسلمين أن يسكن أو يشتري أو يبيع هذه العقارات، أو يساعد في تملُّكها، أو الترويج لذلك بأي طريقة كانت؛ لأنّ ذلك مِن التعاون على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، كما أنَّ فيه إعانةً للمجرمين على طمس معالم الحق، وعلى قهر الناس وظلمهم، وتجريدهم مِن حقوقهم، بل قرّر الفقهاءُ أنّ المسلم يأثم بأداء العبادة وسائر التصرفات في هذه الأراضي المغصوبة؛ لعِظَم حقوق العباد، وجُرمِ أكلِ أموالهم بالباطل.
رابعاً: يجب على الجميع الوقوف صفاً واحداً ضدّ هذا القانون الظالم، كلٌّ حسب استطاعته:
1- فعلى الجهات القانونية والسياسية القيام بما يلزم قانونياً لفضح هذه القوانين، وتوثيق آثارها ونتائجها على الأرض، ومخاطبة مَن يلزم لاعتبار هذه المراسيم وغيرها باطلة.
2- على الإعلاميين والناشطين نشر الوعي بآثار هذه المراسيم والقوانين، وتاريخ النظام المجرم فيها مِن عقود.
3- مَن استطاع مِن سكان تلك المناطق أو مِن غيرهم مِن الناشطين أن يوثّق الأملاك، ويقوم بحفظ السجلات العقارية بأيّ طريقة ممكنة فليفعل ذلك، بل هو مِن الواجبات التي يتوقف على إهمالها ضياع الحقوق.
4- على طلبة العلم والمشايخ الذين يقيمون في المناطق التي تطبّق فيها هذه القوانين أن لا يعملوا بموجَبها قدر المستطاع، وبحسب ما تسمح لهم ظروفهم والموقع الذي هم فيه.
5- كما نحذّر المنتمين للعلم والفكر والإعلام وغيرهم مِن تأييد مثل هذه الخطوات والقوانين المتضمّنة للظلم والبغي على الناس، ومِن دعم كلّ ما يخل بحقوق الناس، ويجردهم منها؛ فإنهم مسؤولون عن ذلك ومحاسبون عليه يوم لا ينفعهم مال ولا جاه ولا سلطان، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن أعان ظالماً بباطلٍ ليدحض بباطله حقّاً فقد برئ مِن ذمّةِ الله عز وجل وذمةِ رسولِه» أخرجه الطبراني والحاكم وصححه.
وأخيراً: نتوجّه إلى إخواننا المهجّرين مِن أراضيهم وبيوتهم، والذين صودرت أملاكهم وأموالهم مذكّرين لهم أنّ ما أصابهم إنما هو مِن أنواع البلاء الذي يصيب المسلم ويُبتلى به، كما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 – 157].
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أسوة حسنة؛ فقد عُذّبوا وأوذوا في سبيل الله، وأُخرجوا مِن ديارهم وأموالهم بغير حقّ، فصبروا على ذلك واحتسبوه عند الله تعالى، فعوضهم الله خيراً مما فاتهم مِن خيري الدنيا والآخرة، وكانت عاقبة أمرهم نصراً وفتحاً: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ * لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 195 – 197].
إنّ التمسك بما خرجنا لأجله مِن المطالبة بالحقوق ورفع الظلم، والإصرار عليه، والعمل لأجله بكلّ وسيلة مشروعة، والتبشير به بين الناس هو الواجب الذي لا تنبغي الحيدة عنه، وهو أفضل ردٍّ شعبي على هذه القرارات الظالمة، حتى يحكم الله بين الشعب وبين مَن يمنعه حقوقه، ويسعى في نزعها بكلّ سبيل، والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
وقد وقع على الفتوى من أعضاء المجلس السادة العلماء
1- الشيخ أحمد حمادين الأحمد
2- الشيخ أحمد حوى
3- الشيخ أسامة الرفاعي
4- الشيخ أيمن هاروش
5- الشيخ عبد الرحمن بكور
6- الشيخ عبد العزيز الخطيب
7- الشيخ عبد العليم عبد الله
8- الشيخ عبد المجيد البيانوني
9- الشيخ علي نايف شحود
10- الشيخ عماد الدين خيتي
11- الشيخ عمار العيسى
12- الشيخ فايز الصلاح
13- الشيخ محمد جميل مصطفى
14- الشيخ محمد الزحيلي
15- الشيخ محمد زكريا مسعود
16- الشيخ محمد معاذ الخن
17- الشيخ ممدوح جنيد
18- الشيخ موسى الإبراهيم
19- الشيخ موفق العمر
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول