حول سورة العصر

هذه خطبة من خطبي القديمة التي كنت أجتهد في إعدادها وكتابتها ثم ألقيها من حافظتي، وهذه الخطبة التي أقدمها اليوم لإخواني الكرام، ألقيتها في جامع الرضا بجدة.

وقد قام الأخ الكريم طارق عبد الحميد قباوة بصفها، وقمت بمراجعتها وتصحيحها، وأسأل الله أن ينفع بها، واستحسنت نشرها في الموقع، والله ولي التوفيق، ومنه العون والفضل.

عمر الإنسان هو رأس ماله، وأجزاء عمر الإنسان تنطلق عنه من غير رجعة ولا تعويض، فهو خاسر لحظةً في كل لحظة، وساعةً في كل ساعة، ويوماً في كل يوم، وشهراً في كلِّ شهر..

العصر: هو الزمن السيَّال الذي لا ثَبَات له، كنهر يجري من غيب المستقبل إلى غيب الماضي، ولا يعيش منه إلا لحظة الحاضر، فمن لم يغتنم لحظة الحاضر بما هو مفيد يدَّخر له، فهو إنسان خاسر.

أقسم ربنا بتقديره لأعمار مخلوقاته في العصر الذي هو الزمن السيَّال بلا توقف، على أن الإنسان لفي خسر، أي: هو واقع في خسر دائمٍ محيط به.

والمراد بالإنسان: البالغ التكليف في ظروف الحياة الدنيا.

لفي خسر: محاط بخسر، كالغريق في وحل، حيواناته تأكل منه باستمرار.

الخسر هو النقص مما يملك المالك، من ماله، أو جسمه، أو لذته... والنقص هنا هو في العمر، الذي يستطيع الإنسان أن يغنمه ففاته بإهماله وتقصيره.

وجاء تأكيد كون الإنسان في محيطٍ به من الخسر، بالقسم بالعصر، وبحرف التوكيد بـ إن وبالجملة الاسمية، وبـ لام الابتداء المزحلقة إلى الخبر...

كلُّ هذه المؤكِّدات بسبب غرابتها، وبُعدها عن تصوُّرات الناس، فحالتهم حالة من هو شاكُّ فيها أو منكر لها...

رأسمال الإنسان في حياته الدنيا أمران: 

الأول: لحظات عمره التي تنتهي بانتهائها حياتُه في رحلة امتحانه.

الأمر الثاني: ما وَهَبَه الله من طاقاتٍ ماديَّة ومعنوية يستطيع أن يعمل بها خيراً أو شراً، أو يعطِّها ويضيعها بلا فائدة يخيبها منها.

عمر الإنسان كخزان، يجري الماء السيال فيه من ثَقب لا يمكن إقفاله، ولا يمكن الانتفاع به إلا لحظة فلحظة، إذ ما يجري من هذا الثقب المفتوح يبتلعه الماضي فلا يمكن استرجاعه.

المقدار الذي يحوِّله الإنسان من هذا الزمن السيَّال وما امتزج به من طاقات فيجعله شيئاً ثابتاً، أو يجعله شيئاً متنامياً متزايداً... حتى تكون الذرة منه كالجبل العظيم.

الانتفاع من الوقت الحاضر في الخيرات والأعمال الصالحات يختلف بين المنتفعين، فمنهم من ينتفع بمقدار ذرَّة فما فوقها، حتى ينتفع بعضهم بمقدار جبل من الجبال.

الأطوال الزمنية واحدة ولكن تختلف عرضاً وعمقاً...

فرق كبير بين لحظةٍ يملأ فيها مالئ من كأساً، ولحظةٍ يملأ فيها بٌركة، ولحظةٍ يملأ فيها مالئ من بحر...

لحظة من سلطان عادل، يوقع على أمر يعم نفعه شعباً بأكمله، ويجري خيره، هي من جهة الطول تُساوي اللحظة التي انتفع بها إنسان يحك رأسه، لكن عمقها وعرضها بمثابة بحر عريض عميق.

فرق كبير بين لحظة تقطع فيها دُوَيبة مقدار عرض سترة من الأرض، ولحظة يقطع فيها فرسٌ عدة أذرع، ولحظة تقطع فيها طائرة أميالاً في حين يجتاز منها الضوء مئات الألوف من الأميال.

إن العرض في لحظة إنسان يعمل فيها عملاً نافعاً يأتي من شمول الخير وكثرته، أما العمق فيأتي من بقاء جريان الخير في المستقبل.

فمن تصدَّق بصدقة جارية، أو نشر علماً نافعاً فقد استفاد من عرض وقته وعمقه، إذ يبقى أثر عمله ولو مات...

روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له».

رأس مال الإنسان في الحياة الدنيا: أوقات عمره وطاقاته المادية والمعنوية...

وهو منحة من الله للإنسان في الحياة الدنيا، وهو مسؤول عنه يوم القيامة.

روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعمله ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟».

الزمن هو النهر السيال الذي لا نملك إيقافه ولا إمهاله، إنما نملك أن نغترف منه نفعاً أو نصيد منه صيداً ثميناً...

أن نحول الوقت إلى قيمة ثابتة... نستثمرها نعيماً خالداً في دار النعيم يوم الدين...

ما فائدة إنسان سعى كادحاً حتى ملك جبلاً من ذهب، وحين ملكه سقط عليه ميتاً.

الأخسر منه من ضيَّع عمره فيما لا خير فيه، والأخسر منهما من حمل أوزاراً وآثاماً رمت به خالداً في عذاب النار...

يخسر رأس ماله، ويحمل ديوناً وتبعات، ولا يجد تسديداً إلا من عذاب في الحياة الآخرة، حياة الحساب وفصل القضاء وتنفيذ الجزاء.

كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، ثم يسلِّم أحدهما على الآخر.

قال الشافعي: لو تدبَّر الناس هذه السورة لوسعتهم...

يا ابن آدم إنما أنت أيام... «بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشرُّ غائب ينتظر، أو الساعة.....» رواه الترمذي.

وروى النسائي: «اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سَقَمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك».

استثنى الله من الناجين من الخسران، بقوله:[إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] {العصر:3}. أي: لا نجاة للفرد وحده، لابدَّ أن يضع يده في يد إخوانه، فـ يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، ,إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

لهذا عبر الله تعالى عن النجاة بصيغة الجمع فقال: [إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] {العصر:3}.

المسلم لا يعيش وحده، ولا يعمل وحده، وإنما يعمل مع الجماعة، يوادُّها وتواده، ويرتبط بها، وترتبط به، وينصح لها وتنصح له، يواليها وتواليه:[وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] {التوبة:71}.

المسلم يقف في صلاته بين يدي الله تعالى فيقرأ الفاتحة، ويتلو في هذه الفاتحة قول الله تعالى:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.بصيغة الجمع، ولو أنه يصلي فرداً، ولو كان في قعر بيته خالياً، لا يراه أحداً، فإنه ينادي ربه بهذه الصيغة.

ويدعو ربه:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6}. هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، يتحدث بلسانهم ويتمثلهم في ضميره.

أول خطوات النجاة للإنسان الذي هو أساس الصلاح هو الإيمان.

الإيمان الحقيقي هو الذي يثمر عملاً وإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر، أو سحاب بلا مطر.

والقرآن الكريم حينما يعرض علينا حقائق الإيمان يعرضها في أخلاق وأعمال:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحجرات:15}.[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] {الأنفال:2}.

إيمانهم يتجلَّى في أعمال: أعمال قلبية: وجل القلوب عند ذكر الله ـ زيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله ـ التوكل على الله عزَّ وجل... ثم أعمال ظاهرة: إقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله:[أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا] {الأنفال:4}.[قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ(7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9) أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ(10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11) ]. {المؤمنون}. 

هذه حقائق الإيمان في حياة المؤمنين، يتصفون بأعمال إيجابية، ويتصفون بأعمال سلبية يتركونها، فالإيمان من فعل وترك.

1 ـ فهم يخشعون في الصلاة، ويحافظون عليها. لم: يؤدون الصلاة، فهذا أمر مفروغ منه، ولكن وصفوا بالخشوع في الصلاة، ليست صلاتهم جسماً بلا روح ولكن صلاتهم هي الصلاة التي تخشع فيها القلوب وتخشع فيها الجوارح...

2 ـ ويؤدون الزكاة:[وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ] {المؤمنون:4}.

3 ـ ويرعون العهود والأمانات للخالق والخلق:[وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ] {المؤمنون:8}.

وهناك جانب الترك... البعد عن المنهيات.

1 ـ الذين هم عن اللغو معرضون: لا يضيعون أوقاتهم في اللغو، فالعمر أثمن من أن يضيِّعوه في الكلام الفارغ، والعمل الباطل، والوقت هو الحياة، ومن ضيع وقته ضيع عمره وقتل نفسه.

2 ـ والذين هم لفروجهم حافظون: لا يقعون في حرام، ولا يرتكبون الفواحش، ما ظهر منها أو بطن...

فالإيمان ليس مجرد معرفة ذهنية في العقل، لا تشرق بها جوانب النفس، ولا تتجلى في أعمال...

الإيمان هو الذي يثير القلب، ويضيء العقل، ويحرك الإرادة، ويحيي الضمير، ويبعث على الخير، ويزع عن الشر...

فليس الإيمان مجرد دعوى، بل لابدَّ من بينة، فذكر سبحانه أمارات الإيمان وعلاماته الطاهرة والباطنة...

تحققوا بالتصديق القلبي الجازم القطعي، وثبتوا عليه، بحيث لا يعتريهم شك مهما تطاولت عليه الأزمنة... الارتياب من صفات المنافقين:[أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ] {النور:50}.

[إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {النور:51} .

فالإيمان الصادق إذا اعترته الفتن، وألقيت عليه الشر لا يرتاب...

هل يشك الإنسان أن الشمس طالعة، وأننا في وقت النهار... فلو أن أهل الأرض اجتمعوا وراحوا يشككوك أيها المؤمن ويأتون بأنواع الأدلة والبراهين لأجل أن يحوِّلوا قلبك عن عقيدتك بوجود النهار إلى الاعتقاد بأنه ليل مظلم، فإنهم لا يقدرون...

ثم ذكر سبحانه براهين وعلامات الإيمان الصادق:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحجرات:15}. 

الجهاد بذل الجهد، أن تجهد نفسك بالقيام بما أمر الله تعالى... من جهاد الكفار... 

وتقديم الأموال على الأنفس في هذه الآية من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، والترقي من بذل المال النفيس إلى ما هو أنفس وهو النفس...

بعض الناس يحرصون على المال، ويتفانون في حبه، وهم عبيد له... يتكالبون عليه أكثر من الذباب المتكالب على الحلوى، ترى بعضهم تزهق روحه ولا تسمح نفسه أن يدفع ما أوجبه الله وهو على فراش الموت، وياليت أنها تذهب معه إلى القبر تنفعه، بل تصرف وتتحول للورثة، قبل أن يغسل ويكفن ويدفن في قبره. 

قدم حب المال على حب الله ورسوله...

[أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحجرات:15}. في دعوى الإيمان... الصادقون قولاً وحالاً وفعلاً ولابد من الدعاوى من بينات تبثها حتى يصدق المدعىِ.

يجب على العاقل أن يحرص كل الحرص على عمره، أقوى من حرصه على رأس ماله، فإنَّ رأس مال التاجر إذا خسره يعوَّض، وأما العمر إذا خسره صاحبه، فإنه لا يُعوَّض، وقد نبه الله تعالى عباده إلى الحرص على أعمارهم في سورة العصر فقال تعالى:[وَالعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ] {العصر:2}.

فقد أقسم سبحانه بالعصر، وهو الزمان والدهر ا لمشتمل على عمر كل ذي عمر، أقسم بذلك على أنَّ الإنسان لفي خسر، أي في خسر لعمره المنطوي في العصر الذي يمُّر عليه..

ثم استثنى الله من ذلك الخسران أقواماً ربحوا أعمارهم ولم يخسروها، بسبب صفات خاصة تحققوا بها، فقال سبحانه: [إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] {العصر:3}.

فوصفهم أولاً بالإيمان وهو التصديق الجازم بما علم بالضرورة، يجيء النبي صلى الله عليه وسلم به، وهذا يشمل الإيمان بالله ووحدانيته في ذاته وأسمائه وصفاته، والتصديق بملائكته وبكتبه، وبرسله، وباليوم الآخر، وما يجري فيه منا لحشر والنشر، والسؤال والحساب، والثواب والعقاب، والجنة والنار...

ثم وصفهم سبحانه بقوله:[ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] {العصر:3}. وهذا يشمل جميع الأوامر الشرعية، ويشمل اجتناب النواهي.

وإنما ذكر عمل الصالحات بعد الإيمان، لأنَّ الأعمال الصالحة هي الدليل والشاهد على صدق الإيمان في قلوبهم وكماله، ولهذا يقرن الله تعالى الأعمال الصالحة بالإيمان في كثير من الآيات القرآنية:

قال تعالى:[الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] {البقرة:3}.

وقال تعالى:[وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] {البقرة:25}.

الصلاح: ضد الفساد، فبالأعمال الصالحة يصلح الإنسان، فيكون صالحاً غير فاسد.

الأعمال الصالحة: هي التي ترفع إلى الله، كما قال سبحانه:[ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] {فاطر:10}.

وبالأعمال الصالحة يصلح لمراتب القرب والحب الإلهي، ومرتبة الود: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا] {مريم:96}.

ويكون من الصالحين الذين يتولاهم الله تعالى:[إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ] {الأعراف:196}. أي: على حسب صلاحهم.

ويكون من الصالحين الذين يتوارد عليهم السلام من جميع المصلين حين يقولون في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

كما جاء في الحديث الذي رواه الأئمة الخمسة، واللفظ لمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قعد أحدكم في الصلاة، فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قالها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله».

وبالأعمال الصالحات يصلح العبد لأن يثني عليه في الملأ الأعلى.

الشرط الرابع الذي أرشدتنا إليه هذه السورة ـ التي قال عنها الإمام الشافعي: لو عمل الناس بها لكفتهم ـ هذه السورة التي تكتب بأقل من سطرين، لو عمل الناس بها لكفتهم، لأنها رسمت منهجاً كاملاً للإنسان هو: التواصي بالصبر.

لا يوجد حق بغير صبر، لأن تكاليف الحق ثقيلة، وإن طعم الحق مر، ومحفوفة بالأشواك، مضرجة بالدماء.

انظر إلى طريق الحق منذ بعث الله الرسل مبشِّرين ومنذرين، تجد الصبر والمحن، ومن هنا أوصى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:[فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ] {الأحقاف:35}. [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ] {الرُّوم:60}.

وقد أوصى لقمان ابنه وصيته البليغة التي خلدها القرآن الكريم، فكان مما أوصاه:[يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {لقمان:17}.

لماذا قال له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ. ؟ لأنه ما دام سيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فلابد أن يوطِّن نفسه على الأذى، سيناله الناس بأذاهم، لم ينج من الأذى نبي مرسل... [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] {آل عمران:186}.

والإنسان الذي حقق شرط الإيمان والعمل الصالح سيستمرئ المر، ويستعذب العذاب، ويهون عليه ما يلق، فمن عرف مقدار ما يطلب هان عليه مقدار ما يبذل، إنه يطلب الجنة، فلابد أن يبذل النفس والمال:[إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ] {التوبة:111}.

بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاَ إلى الروم، فيه أحد الصحابة هو عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك برسالة إلى كسرى، فأسر جميع المسلمين وفيهم عبد الله. فقيل لملك الروم: إنه في هؤلاء أحد من أصحاب النبي. فقال لهم: أجيعوه، فمنعوا عنه الطعام والشراب أياماً، ثم قال: اعرضوا عليه لحم الخنزير، فعرضوا عليه لحم الخنزير فأبى أن يأكل منه.

فجيء به أمام الملك، فقال له: مالك لا تأكل لحم الخنزير؟ أليس هذا حلالاً لكم في مثل حالتك؟ فقال: قد علمت إنه لحلال لي، وإن الله قد رخَّص لي في أكله، ولكن ما كنت أقر عينك بأكلي من هذا الخنزير، رفض أن يسره بالأكل، وهي رخصة له: [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {البقرة:173}.

ثم قال: ما رأيك أن تدخل في النصرانية وأشركك في ملكي؟ فقال: والله لو عرضت علي ما تملك، وما ملك جميع العرب والعجم على أن أترك دين محمد طرفة عين ما فعلت ذلك. فقال: إذن أقتلك قال: أنت وذلك.

فقال لهم: اصلبوه، فصلبوه، وقال لهم: ارموا بين يديه وبين رجليه ولا تصيبوه، فرموه بالنبال من حوله قريباً من يديه ورجليه، وهو ثابت كالطود الأشم لا يتزلزل ولا يتزعزع.

ثم أنزله وقال له: ألا تدخل في النصرانية؟ فأبى، فجيء بأسيرين من المسلمين أمامه، وقد أمر بماء وضع في قدر، وأوقد تحته حتى على واشتد غليانه، فجيء بأحد الأسيرين فألقي في هذا القدر، حتى بدت عظامه...

ذرفت عينيه بالدمع، فظن أنه قد جزع وضعف، قالوا: إنه بكى...

فسأله ما يبكيك، فقال: بكيت لأنك إذا وضعتني في هذا القدر هلكت وذهبت نفسي، وكنت أود والله لو أن لي تحت كل شعرة نفساً تلقى حتفها في سبيل الله.

عجب الرجل من ثباته وصموده وصبره، فقال: تقبل رأسي وأخلِّي سبيلك وسبيل جميل أسرى المسلمين، فقال في نفسه: عدو من أعداء الله يخلِّي جميع أسرى المسلمين ما علي إذا قبلت رأسه..

وقصَّ على عمر يعتذر إليه أنه قبل رأس هذا الطاغية... فقال عمر: حق على كل من هنا، أن يقوم فيقبل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأ، وقام وقبل رأسه وقبل رأسه جميع المسلمين.

هذا هو الصبر، هذا هو الثبات، هذه هي النفوس التي رباها الإسلام، هذا هو الفرد الذي نريده، إذا كنا نريد تغيير مجتمعاتنا...

التواصي: أن يوصي بعضهم بعضاً بالتزام الحق في الأقوال والأعمال والمعاملات والمحاكمات والمخاصمات... ويدخل تحت هذا التواصي: النصيحة للعباد، وحب الخير لهم، وحفظ حقوقهم المالية والأدبية والاجتماعية...

التواصي بالصبر: أن يوصي بعضهم بعضاً بالصبر، وأنواعه ثلاثة:

الصبر على أداء العبادات: وذلك بالمواظبة عليها، وأدائها في أوقاتها، بآدابها المطلوبة، دون انقطاع ولا تكاسل عنها.

2 ـ التواصي بالصبر على المصائب والبلاء عند حلول المصائب..

وفي الصبر تكفير للسيئات، ورفع للدرجات، وزيادة في الحسنات، قال تعالى:[ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10}.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيبُ المؤمنَ من نَصَب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه».

فالمؤمنون يجب أن يكونوا متواصين، ومتناصحين، ومتحابين، ومتعاونين على البر والتقوى، كلٌّ منهم يجب الخير لغيره، كما يحبه لنفسه، ويكره لغيره ما يكرهه لنفسه.

الوصية: بيان مقرون بنصح مؤكد بعهد، وليست مجرد بيان عابر، ولا مجرد نصح بارد أو فاتر، بل هي نصح مؤكد مشدَّد:[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ] {البقرة:131}.

والتواصي: تشارك في توجيه الوصية.

المؤمن يقوم بواجب عليه تجاه غيره من المؤمنين المسلمين، وواجب المسلم تجاه أخيه المسلم أن يعلمه ما يجهل من أوامر الله ونواهيه، وأن ينصحه بفعل ما أمر الله بفعله، واجتناب ما نهى الله عنه، وأن يوصيه بالصبر على فعل الطاعات وترك المحرمات.

التواصي بالصبر مسبوق بالتعريف بأوامر الله، والنصح بطاعة الله... وهذه الأوامر تحمِّل فاعلها مشقة أدائها، وتتحمل صبراً، وترك النواهي فيها مشقة مخالفة لشهوات النفس، وتتطلب صبراً أيضاً.

فالتواصي بالصبر يدل باللزوم العقلي على ما ينبغي أن يكون سابقاً له، من النصح والدعوة والبيان والتعليم.

والصبر قوة خلقية من قوى الإرادة، تمكن الإنسان من ضبط نفسه، وحبسها عن الضجر والجزع، والسأم والملل، والعجلة والرعونة، والغضب والطيش، والشهوات...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

نشرت 1431 وأعيد نشرها وتنسيقها 16/شعبان/1441

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين