في إحدى صفحات الواتس التي تضم كوكبة طيبة من طلبة العلم الشرعي، نُشِر خبرُ وفاة ابنة أحد الإخوة بعد أن أَلَمَّ بها داء عُضال.
وتوالت على الصفحة التعازي المواسية للأخ المفجوع بابنته الحافظة التي غيَّبَها الموت عن مقاعد الدراسة الجامعية. رحمها الله، وجَمَع لأبويها الصبر والأجر.
اللافت في التعازي المنشورة بهذه المناسبة تَرَدُّد عبارة: "حسبنا الله ونعم الوكيل" في كثير منها.
وقد كان لي من قَبلُ وِجهةُ نظر في قول هذه العبارة في مناسبة الموت الطبيعي.
فكتبتُ تعقيبا على التعازي التي تحمل عبارة الحسبلة، هذا نَصُّه:
وجهة نظر أعرضها بين يدي الإخوة طلبة العلم الكرام.
لفتني في التعازي التي وجَّهها الإخوة عبر هذه الصفحة لأخينا .... - جبر الله خاطره وأَجَرَه في مصيبته ورحم فقيدته - تكرارُ عبارة "حسبنا الله ونعم الوكيل" في عدد من التعازي.
ولا أرى المَقام مَقامَها.
نَعم، لو كانت مصيبة الوفاة بجناية جانٍ أو ظلم ظالم لناسب أن نقول فيها: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فإن الحسبلة فيها معنى الاستنصار بالله ليكفينا شر ذلك العدو أو الظالم أو الجاني.
لأن "حسبنا" معناها كافينا. وفي أسماء اللّه تعالى: "الحَسِيب" ومعناه: الكافي.
وأما أن تكون الوفاة قد تمت بمرض أو نحوه مما لا عدوان فيه ولا جناية، فعلى من تستنصر بالله؟ وضد مَن تستكفي بالله؟!
وباستقراء عبارة الحسبلة في القرآن والسنة، نجد أنها جاءت تحمل معنى الاستنصار بالله لدفع عدو، أو إبطال كيد، أو اتقاء ظالم، أو الإعانة على خطر داهم، أو كفاية ما أهمَّ وأغمّ من بأساء أو ضراء أو حرب أو كرب، ونحو ذلك.
وليس لمجرد التصبُّر أو التصبير على مصيبة من عند الله، قد وقعت وانتهت، ليس فيها ظلم ظالم ولا عدوان معتدٍ.
أما في آيات القرآن فنقرأ قوله تعلى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ...} [الأنفال: 62 - 65]
وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129]
وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]
وأما في السُّنة، فمما جاء من ذلك:
حديث الصحيحين، واللفظ للبخاري عن أبي هريرة في حديث الذين تكلموا في المهد، وفيه: وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَ: أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِي وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَيَقُولُونَ: تَسْرِقُ وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ.
وفي سنن الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ؟! فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا. قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وفي سنن أبي داود عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وفي البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
كل هذا يَشِي - في نظري - بعدم مناسبة عبارة "حسبنا الله ونعم الوكيل" للمصيبة التي ليس فيها ظلم من أحد ولا عدوان.
هذا مع أن القرآن قد لقَّننا معشرَ المسلمين، عبارة نقولها عند المصيبة، لو أُوتِيها يعقوب عليه السلام، لما قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} كما نقله القرطبي عن سعيد بن جبير رحمه الله.
ألا وهي عبارة "إنا لله وإنا إليه راجعون"
فقد رتَّب الله على قولها ثلاث فضائل جليلة بيَّنها سبحانه في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]
أفليس في هذه العبارة ما يغني عن الحسبلة في غير موضعها؟
فما رأي الإخوة طلبة العلم في هذا؟
هذا، والله أعلم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول