حول التطورات العسكرية في المشهد السوري

من العبث القول إن التقدم العسكري الذي يحزره النظام في محيط دمشق وبعض مناطق حلب هو نتاج تماسك جيش النظام الذي بلغ به الإنهاك حدا رهيبا بعد أكثر من عامين على المواجهة مع الثوار، وقد مضى زمن طويل، وجيش النظام يكتفي بالدفاع عن المناطق التي يتمترس فيها قبل أن يبدأ مرحلة الهجوم منذ استعادة القصير على يد مقاتلي حزب الله.

لا يعني ذلك أن الجيش قد انهار، فنواته العلوية لا زالت تعتبر المعركة “وجودية” بحسب تعبير أحد عناصر الحرس الجمهوري لمجلة تايم الأمريكية، لكن الثابت أيضا أن قدراته على صعيد الهجوم واستعادة المواقع لم تعد كبيرة.

الذي لا شك فيه هو أن الحرس الثوري هو الذي يقود المعركة في دمشق وحلب وعدد من المناطق الأخرى، وإذا كان عديد عناصر الحرس الذي يشاركون مباشرة في المعركة ليس كبيرا (أحد نواب البرلمان الإيراني قال إن هناك كتائب كثيرة، وهو ما نفاه المسؤول الإعلامي للحرس)، فإن مهمتهم العملية في الإشراف والتخطيط لا تقل أهمية، فيما يتكفل حزب الله والكتائب الشيعية، لاسيما العراقية بتنفيذ الهجمات، وهؤلاء ينطلقون من بُعد عقائدي، ويقاتلون على نحو يختلف عن عناصر الجيش الذي يهربون من الموت بكل وسيلة ممكنة.

من هنا يمكن القول إن عنصر التفوق في معسكر النظام إنما ينحصر بشكل أساسي في عناصر حزب الله والكتائب الشيعية التي يديرها ويشرف عليها (وعلى الجيش أيضا) الحرس الثوري، وكل ذلك في إطار مركزي يختلف اختلافا كبيرا عن معسكر الثوار الذي يعيش حالة شرذمة لم تعرف مثلها الثورات المشابهة في أي مكان في العالم، فيما لا تغيب عن بعض قواه الاختراقات من قبل النظام أيضا.

هذا المستوى من الشرذمة في معسكر الثوار هو الذي يتسبب في بعض التراجعات التي تابعناها مؤخرا، إذ من الطبيعي أن تتفوق القوة التي تُدار مركزيا على قوىً مشتتة، مهما بلغ مستوى بطولتها، فضلا عن وجود قوىً تركز على السيطرة على بعض المناطق أكثر من تركيزها على المعارك مع العدو، وبذلك انتقلت المعركة من معادلة هجوم الثوار ودفاع جيش النظام إلى هجوم من قبل الأخير مقابل دفاع الثوار عن المناطق التي يسيطرون عليها (يهاجم الثوار أيضا في مناطق عديدة)، وحين يكون ذلك هجوم النظام مدعوما بغطاء جوي وصاروخي ومدفعي، فمن الطبيعي أن يخسر الثوار بعض المناطق هنا وهناك، لاسيما أن مستوى التسليح لا يزال محدودا، أعني ذلك القادر على مواجهة زحف الدبابات المحمية من قبل الطيران وقوة النار الكبيرة.

من المؤكد أن هذا المستوى من الهجوم الذي يبديه تحالف النظام ليس بعيدا عن أجواء السياسة التي تحيط بالملف السوري برمته، وحيث حصل النظام على قدر من الشرعية بعد اتفاق الكيماوي، وفي ظل أجواء الحديث عن انعقاد جنيف2، والتي تأتي مشفوعة بأجواء دولية تخوِّف الجميع من مغبة تطور العنصر “الجهادي” في الثورة إلى مستوى السيطرة على كل المناطق المحررة، فضلا عن التقدم نحو مناطق أخرى.

في هذه الأجواء يستغل النظام تلك المخاوف في شن هجمات على كثير من المناطق دون الخوف من الإدانة الدولية، وفي ظل هجرة الكثير من سكانها خوفا من الموت والدمار (6.5 مليون سوريا تركوا منازلهم بحسب الأمم المتحدة)، يحصل النظام على فرصة تطبيق سياسة الأرض المحروقة دون اتهامه باستهداف المدنيين. وفي المقابل تراه يسكت سكوتا مطبقا على استهداف الصهاينة لمخازن الصواريخ المضادة للطيران في اللاذقية رغم التهديدات السابقة لبشار بأنه لن يسكت في حال شنوا هجوما جديدا. ولعل الرسالة التي يبعث بها من خلال ذلك هي التأكيد للصهاينة على أن معركته ليست معهم، بل إنه يدافع عنهم عمليا باستهدافه “المتطرفين”.

في ضوء ذلك يبدو من الضروري أن تتخذ القوى الداعمة للثورة مسارا جديدا لتعديل ميزان القوى على الأرض، بعيدا عن هواجس المعتدلين والمتطرفين إذا أرادوا فعلا التوصل إلى حل سياسي معقول، ولن يحدث ذلك دون تفاهم تركي سعودي قطري، ودون إقناع أهم الفصائل على الأرض بالتوحد والشروع في هجوم على مواقع النظام، لأنه إذا نجح النظام في استعادة ريف دمشق، وبدأ يستعيد مناطق في ريف حلب، فسيكون في وضع قوي على طاولة التفاوض.

المصيبة أن التناقض بين القوى الداعمة قد تجاوز سوريا إلى مختلف الملفات في المنطقة، لكن إرادة البعض، ومنهم تركيا اتخاذ مسار جديد في الأزمة لن يكون ناجحا دون تطور إيجابي في الوضع العسكري، أعني ميلها إلى تسوية سياسية، أكانت في جنيف 2، أم سواه.

نزيف النظام وداعميه، وفي المقدمة إيران كبير جدا، وهو أكبر من قدرتهم على الاحتمال لزمن طويل، وهم يدركون أن الحسم العسكري لا يزال مستحيلا، ولو استمرت المعركة أعواما أخرى، لكنهم يحسِّنون شروط التفاوض ليس إلا، بل إن الروس والإيرانيين لن يمانعوا في استبعاد بشار مقابل الحفاظ على بنيان الدولة السورية، وجزء مهم من النظام.

في هذه الأثناء، يدفع الشعب السوري ثمن التآمر الدولي والخذلان العربي والغطرسة الإيرانية، ولا أحد يدري كم ستستغرق هذه المعادلة البائسة، قبل أن يتمكن من العبور نحو محطة أخرى عنوانها الحرية والتعددية، والمصيبة أن النظام وشبيحته لا يزالون مصرين على حكاية المؤامرة على نظامهم، بينما يرى الجميع بأم أعينهم على من يتآمر الأمريكان والروس والصهاينة، وكثير من العرب أيضا!!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين