حوار مع مُبْتَلىً حزين

ألقيتُ عليه السلام فردَّ عليّ بصوت واهن حزين: وعليكم السلام.

مازحته قائلاً: الله أمر أن تُحييني بأحسن من تحيتي: "وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا....".

قال: أكمِل الآية: "أوْ رُدُّوهَا"!

ابتسمتُ وقلت: إنما أردتُ أن أُخرجك من حزنك الذي ملأ قلبك وكشفَتْهُ تعابير وجهك.

قال: همومٌ يا أخي أتعبتني، وديون أرهقتني، وأمراض تكاد تفتك بي.

قلت: أغبطك.

قال منفعلاً: تغبطني على هموم وديون وأمراض؟!!

قلت: لو صبرتَ عليها واحتسبتها وعلمت ما لك من أجر على صبرك واحتسابك لعذرتني على غِبطتي إياك.

قال: أي أجر يا أخي؟!

قلت: إنه أجر عظيم، وثواب جزيل، سيغبطك عليه الذين لم يُصابوا بمثل ما أُصبت به، ولكن ليس اليوم.

قال: متى؟ غداً؟

قلت: يوم القيامة، حين يجدون مايُعطيك الله سبحانه وتعالى جزاء صبرك واحتسابك في الدنيا حتى إنهم ليتمنون أنهم أُصيبوا بأكثر مماأُصبتَ به أنت.

قال: كيف هذا؟

قلت: هذا ما بشّرنا به النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي يقول فيه (يودّ أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت فيالدنيا بالمقاريض) صحيح الجامع.

قال: قرض الجلد بالمقاريض ألمه شديد يكاد يكون الصبر عليه من المحال.

قلت: أرأيت! ومع ذلك فإن أهل العافية، أي الذين لم يُصبهم بلاء في الدنيا، يتمنون ذلك لينالوا ما يناله أهل البلاء من ثواب في الآخرة.

قال: وخاصَّةً أن عذاب الدنيا الفانية أهون وأقصر من عذاب الآخرة الباقية فهو أشد وأبقى.

قلت: أحسنت، بارك الله فيك. قال عز وجل: "وَلَعَذاب الآخِرةِ أشدّ وأبْقى". طه127

قال: قرض الجلود بالمقاريض هل يعني تقطيعها؟

قلت: جاء في تحفة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي: قوله (يودّ) أي: يتمنى(أهل العافية) أي في الدنيا، (قُرِضت) بالتخفيف، ويُحتمل التشديد للمبالغة والتأكيد أي: قُطِّعَتْ في الدنيا قطعة قطعة (بالمقاريض) جمع المِقْراض؛ ليجدوا ثواباً كما وجد أهل البلاء. قال الطيبي: الودّ: محبة الشيء وتَمَنِّي كونه له، ويُستعمل في كل واحد من المعنييْن من المحبة والتمني، وفي الحديث هو من المودة التي هي بمعنى التمني.

قال: ولكني أخشى أن ماأصابني دلالة على غضب الله عليَّ!

قلت: بل دلالة على حُبِّه سبحانه إن شاء الله، كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم : (عِظم الأجر عند عِظم المصيبة، وإذا أحب الله قوماً ابتلاهم). صحيح الجامع.

قال: طمأنتني وأسعدتني أسعدك الله.

قلت: ومحبة الله تعالى عبده ليست بالشيء الهيِّن، إن أمرها عظيم، وتعني كثيراً.

قال: حدثني عن بعض ماتعني محبة الله.

قلت: يقول ابن القيّم رحمه الله: إذا أحب الله عبداً أنشأ في قلبه محبته، فإذا أحبك جعلك من خاصته، إنها درجة الولاية، وهبك الإيمان فأعلى درجتك عنده.

قال: هل أستبشر من هذا بأني سأنجو من النار فلا أدخلها؟

قلت: إذا ظفرتَ بمحبته سبحانه فلن تدخلها إن شاء الله.

قال: أحق ماتقول؟

قلت: لقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (واللهِ لايُلقي الله حبيبه في النار). صحيح الجامع.

قال: زادك الله سروراً كما زدتني راحة وسروراً.

قلت: أتضيق بعد هذا بما يُصيبك؟

قال: كيف أضيق إذا كان هذا من محبته تعالى لي؟!

قلت: قال صلى الله عليه وسلم : (من يُرد الله به خيراً يُصِب منه). صحيح البخاري.

قال: الله الله، ماأجمل هذا، إنه سبحانه يريد بي خيراً إذن حين أصابني بما أصابني به.

قلت: جاء في شرح الحديث: إن من أراد الله به خيراً في الدنيا وفي الآخرة؛ برفع الدرجات، وحطِّ الخطايا والسيئات، وتعظيم الأجور؛ فإنه سبحانه يرسل إليه ألوان المكاره فيُصيب منه في نفسه بالأوجاع والأمراض والهموم والأمور المؤلمة المتنوعة التي يسوقها الله إليه مما يُكدِّر خاطره. ولربما كان ذلك في ماله، ولربما كان ذلك في ولده، أو في من يُحب، كل هذه الأمور يسوقها عز وجلّ إلى المؤمن ليكون ذلك خيراً له، فإذا استشعر المؤمن هذا المعنى - أن ذلك لإرادة الخير به - فإنه لامجال للحزن والحسرات التي تنتاب الكثيرين على ما فاتهم من هذه الحياة الدنيا، ومايقع له فيها من الأمور المشوّشة ومن الأمور المؤلمة، فإن ذلك يكون خيراً لهم.

قال: الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله.

قلت: هل أنت بلا ذنب؟ هل أنا بلا ذنب؟ من منا يخلو من الذنوب؟

قال: قال صلى الله عليه وسلم (كل بني آدم خطّاء). صحيح الجامع.

قلت: والله يُكفِّر عنا ذنوبنا وخطايانا بما يُصيبنا به من البلاء..

قال صلى الله عليه وسلم : (مايزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة). صحيح الجامع.

قال: ما أجمل هذا وما أحسنه، ألقى الله وما علي خطيئة فأنجو من النار وأدخل الجنة

قلت: وهذا ماينبغي أن يكون عليه المؤمن؛ أن يعلم أن أمره كله له خير، يشكر الله على السراء فيؤجر، ويصبر على الضراء فيؤجر، كما قال صلى الله عليه وسلم عجباً لأمرالمؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر وكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له). صحيح مسلم

قال: كيف يحزن المؤمن بعد هذا؟

قلت: لهذا قالوا إن السعادة في ثلاث: من إذا أُعطي شكر، وإذا ابتُليَ صبر، وإذا أذنب استغفر.

قال: ينبغي أن نُربِّي أبناءنا على هذا.

قلت: ولن يتربّى الأبناء عليه إذا كان الآباء والمعلمون يفقدونه، كما قيل: فاقد الشيء لايُعطيه.

قال: ما أهم ما نحتاجه لنستقبل الابتلاء بالرضا والتسليم؟

قلت: الصبر، والصبر رزق من الله، كما قال صلى الله عليه وسلم : (مارُزق عبد خيراً له ولاأوسع من الصبر). صحيح الجامع. ولذا علينا أن نسأل الله أن يرزقنا إياه.

قال: هذا يعني أن الصبر من الله؟

قلت: نعم، ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (تنزل المعونة من السماء على قدر المؤونة، وينزل الصبر على قدر المصيبة). صحيح الجامع.

قال: المشكلة أننا لانصبر، إذا صبرنا، إلا متأخرين، فنجزع حين تدهمنا المصيبة، ثم يأتي من يُذكّرنا فنرجع، كما حدث معي اليوم فذكّرتني ووعظتني.

قلت: لهذا ينبغي أن ننتبه؛ فالصبر يكون عند الصدمة الأولى، كما قال صلى الله عليه وسلم .

قال: هل جاء حديث في ذلك؟

قلت: هناك ثلاث روايات للحديث جميعها متفق عليها.

قال: الرواية الأولى عن أنس رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم : (الصابر عند الصدمة الأولى). متفق عليه.

قال: والثانية؟

قلت: الثانية عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم : (الصبر عند الصدمة الأولى).

متفق عليه.

قال: والثالثة؟

قلت: الثالثة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم : (الصبر عند أول صدمة). متفق عليه.

قال: لاشك في أن المقصود بهذا المصائب الكبرى والنكبات العُظمى.

قلت: لا، بل إن هذا يشمل كل مايُصيب المؤمن، حتى الشوكة يُشاكها.

قال: أذكر أنني قرأت حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم يذكُر فيه ذلك.

قلت: الحديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ونصّه: (قاربوا وسددوا، ففي كل مايُصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة يُنكبها أو الشوكة يُشاكها).

قال: والله إنها لبشارة طيبة يحملها لنا هذا الحديث النبوي حين يخبرنا صلى الله عليه وسلم أن في كل مايصيبنا كفارة.

قلت: كما وجدنا في حديثه صلى الله عليه وسلم : (مايزال البلاء بالمؤمن .... حتى يلقى الله وماعليه خطيئة).

قال: جعلتني أحب البلاء وأتمناه.

قلت: لا، لاتتمنَ البلاء، فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وهو صلى الله عليه وسلم لم يتمنَ البلاء، بل أمرنا أن نسأل الله العافية، ولكننا إذا ابتلينا رضينا، فلا نجزع ولا نسخط ؛ قال صلى الله عليه وسلم : (سل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة). صحيح الجامع.

وقال صلى الله عليه وسلم : (سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحداً لم يُعطَ بعد اليقين خيراً من العافية). وفي صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خَفَتَ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه. قال: نعم ، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). حتى لقاء العدو نهى صلى الله عليه وسلم عن تمنيه، فقال: (لاتتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموه فاصبروا). متفق عليه.

قال: هل من آداب في الصبر على البلاء؟

قلت: لعل آداب الصبر على البلاء ظهرت لنا جلية خلال حوارنا ومنها الرضا وعدم التسخّط، والاستبشار بالأجر، والثناء على الله فلا يشكوه إلى الناس.

قال: يشكو اللهَ إلى الناس؟!

قلت: حين يُعبِّر عن تبرّمه وضيقه بما ابتلاه الله من مرض وسواه فإنه يشكو الله سبحانه إلى الناس.

قال: وإن تأدّب العبد بتلك الآداب فلا شك في أنه يحظى برضا الرب عنه وينال ثواباً منه وأجراً.

قلت: يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "إذا ابتليت عبدي المؤمن؛ فلم يشكُني إلى عوّاده، أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، ثم يستأنف العمل). صحيح الجامع.

قال: المقصود بعوّاده هم الذين يزورونه في مرضِه، أليس كذلك؟

قلت: بلى، وقال المناوي في شرح الحديث: "إذا ابتليتُ عبدي المؤمن" أي إذا اختبرته وامتحنتُه ولم يُخبر بما عنده من الألم زوّاره في مرضه، شفيته منه، وأخرجتُ المرض من لحمه ودمه، وكفَّرت عنه عمله السيئ ليخرج كيوم ولدته أمه، ثم يستأنف حياته صحيحاً معافى.

قال: جزاك الله خيراً، فقد شرح الله صدري بكلامك، وأزال همّي ببيانك، وليتك تنشر ما دار بيننا ليطَّلع عليه أكبر عدد من المؤمنين المبتلين، فيكونوا من الصابرين الراضين.

قلت: أفعل إن شاء الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين