حوار علمي بين الصحابة في رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم – لربِّه

روى البخاري ومسلم والترمذي عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: يا أُمَّتاه: هل رأى محمد ربَّه؟ فقالت: لقد قَفَّ شعري مما قلت. أين أنت من ثلاث، من حدثهم فقد كذب:

١ - من حدَّثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب. ثم قَرأتْ: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} و {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً}.

٢ - ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأتْ: {وَما تَدْري نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَداً}.

٣ - ومن حدَّثك أنه كتم، فقد كذب. ثم قرأتْ: {يَا أَيُّهَا الرسولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك}.

ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين.

وفي رواية عن مسروق قال: قلتُ لعائشة: فأين قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}؟ قالت: ذاك جبريل عليه السلام، كان يأتيه في صورة الرجل. وإنه أتاه هذه المرة في صورته التي هي صورته، فسدَّ الأفق.

وفي رواية أخرى عن مسروق قال: كنت متكئاً عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة: ثلاثٌ من تكلم بواحدةٍ منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من يزعم أن محمداً رأى ربه، فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنتُ متكئاً فجلستُ، فقلت: يا أم المؤمنين: أَنْظِريني ولا تَعجليني. ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ المُبين}، و {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى}.

فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل، ولم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين، ورأيته منهبطاً من السماء، سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بين السماء والأرض.

فهذه عائشة رضي الله عنها تصحح لمسروق رأيه وتصوب له فهمه من الآيات، وتقرر أن الرسول عليه السلام لم ير ربه ليلة المعراج، وتُقدِّم آياتٍ تستنبط منها هذا الرأي. وتبين لمسروق المعنى الحقيقي للآيات التي فهم منها عكس ما قرَّرته عائشة.

ونحن مع عائشة - رضي الله عنها - في هذه المسألة تماماً، لأن هذا ما توحي به النصوص القرآنية والحديثية.

ومما يقوّي أدلة عائشة، ويجعل رأيها هو الراجح، ما رواه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربَّك؟ قال: نورٌ أَنَّى أراه.

وعلى هذا الرأي ابن مسعود رضي الله عنه: فقد روى البخاري ومسلم والترمذي عنه في قوله تعالى: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى}، وفي قوله: {ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى}، وقوله: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرَى}، قال فيها كلها: رأى جبريل عليه السلام، له ستمائة جناح.

وبهذا يقول أبو هريرة رضي الله عنه: حيث روى عنه مسلم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى}. قال: رأى جبريل عليه السلام.

أما ابن عباس رضي الله عنهما، فقد كان له رأي آخر، يخالف عائشة وابن مسعود وأبا هريرة.

فقد روى عنه مسلم والترمذي في قوله تعالى: {ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى}، وفي قوله: {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبهِ الكُبْرى} قوله رآه بفؤاده مرتين.

وفي رواية الترمذي: قال ابن عباس: رأى محمدٌ ربه. قال عكرمة: قلت: أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ}. قال: ويحك. ذاك إذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين.

لكن هل هناك خلاف بين ابن عباس وباقي الصحابة في موضوع رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه؟.

الخلاف قد يبدو لذوي النظر المتعجل في النصوص، بينما في الحقيقة لا خلاف. فابن عباس الذي يقول بحصول الرؤية لم يقصد أن الرسول عليه السلام رأى ربه مرتين بعيني رأسه، وإنما يعني أنه رآه بقلبه، فكانت رؤيا قلبية لا عينية، معنوية لا حسّية. وأخذْنا هذا من قوله " رآه بفؤاده مرتين ". كما أخذناه من قول ابن عباس فيما رواه عنه ابن مردويه: "لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه، وإنما رآه بقلبه".

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين