
كان اللقاء في مكتبه بمقرّ حزب العدالة والتنمية في أنقرة، في ختام يوم حافل بالاجتماعات واللقاءات، ترك أثره على حالة الإنهاك التي بدا عليها، من لقاءات النهار السابقة. كنت أعرف مساعديه الذين التفوا حوله، لكنه قدم لي فتاة نحيفة محجبة قائلاً إنها سمية أردوغان، نظرت إليه فقال إنها ابنته التي انضمت إلى مستشاريه (علمت لاحقاً أن عمرها 29 سنة وأنها درست العلوم السياسية في الولايات المتحدة والاقتصاد في إنكلترا وتعلمت العربية في الأردن). كان الجو غائماً وبارداً في أنقرة، إلا أن أصوات المتظاهرين الغاضبين الذين خرجوا إلى شوارع اسطنبول احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على غزة كانت مسموعة بقوة في مقر الحكومة والحزب. أثناء اللقاء كان مستشار أردوغان للشؤون العربية قد انتحى مقعداً جانبياً ووضع جهاز «الآي باد» على ساقيه. ومن خلاله كان ينقل إلى مسامع الرئيس أخبار غزة أولاً بأول. لاحظت أن أردوغان كانت أذنه في غزة والأذن الثانية تستمع إليّ. كنت قد أرسلت مسبقاً إلى سكرتيره الصحافي قائمة بعناوين خمسة مواضيع أردت أن أحدثه فيها. الآن أستحي أن أقول إن العنوان الفلسطيني لم يكن أولها وإن كان واحداً منها. أغلب الظن لأن أحداث المنطقة العربية وضعت الربيع العربي في المقدمة، وصار العنوان الفلسطيني ــ تلقائياً ــ عنواناً ثانياً أو ثالثاً (البعض انتهز الفرصة وشطب عليه). شكراً لنتنياهو الذي ذكرنا بأن فلسطين يجب أن تظل عنواناً أول.
} قلت إذا ظل ردّ الفعل مقصوراً على الشجب والإدانة فإن إسرائيل لن تكترث به.
÷ هذا صحيح. لذلك يتعين التفكير في إجراء أكثر فاعلية. ومن جانبنا فقد قطعنا العلاقات مع إسرائيل احتجاجاً على سياسـتها وعلى عدوانها على السفينة التركية «مرمرة» في المياه الدولية، وقتلها تسعة من ركاب السفينة الإغاثية التي كانت متجهة إلى غزة، ومازلنا نرفض الوساطات التي تدعونا إلى استئناف العلاقات، مادامت إسرائيل لم تستجب لمطالبنا بخصوص الاعتداء على السفينة التركية.
نظر إليّ بعينيه المجهدتين وهز رأسه موافقاً، فعرضت عليه أسئلتي عن مصر.
÷ إنه من الناحية الاستراتيجية فإن التعاون بين البلدين الكبيرين (مصر وتركيا) لا غنى عنه للنهوض بالشرق الأوسط واستقراره، وهذا تقدير مستقر لدينا منذ زمن ليس قصيراً. وحين قامت «ثورة 25 يناير» فإننا وجدنا أن الطريق بات مفتوحاً. وأن مصر أصبحت جاهزة للقيام بذلك الدور، وعلينا أن نمد إليها يد العون لكي تتعافى وتستعيد ما فقدته خلال الفترة الماضية، ليس لأجل مصر ولا العالم العربي، ولكن من أجل مستقبل الشرق الأوسط كله. وكان ولا يزال قرارنا الاستراتيجي هو ضرورة أن تنجح مصر الثورة. وهو ما سعينا إليه طوال العشرين شهراً الماضية، حيث كنا حاضرين في ساحتها قدر الإمكان. وعبرنا عن رغبتنا في توسيع نطاق التعاون معها بغير حدود.
إن هناك من يتصور أو يسعى للربط بين المساعي التركية وبين تركيبة الوضع الداخـلي في مصر، بحيــث يحـصر تلك الجـهود في قوى بذاتـها من دون أخرى. وذلك انطباع مغلوط يتعـارض مع رؤيتنا الاستراتيجية. فنحن مع مصر الدولـة والمجتمع بالدرجة الأولى. ونريد للنـجاح الذي نبتغيه أن يكون لمصلحة البـلد كله كمـا هو لمــصلحة المنطقة بأسرها. ولأننا مع الثورة التي سعت لإقـامة النظـام الديموقراطي في مـصر، فأيدينا ممدودة لكل من تأتي به الديموقراطية إلى السلطة.
قال إن الزيارة الأولى لمصر كانت للتهنئة باختيار الرئيس الجديد وإجراء الانتخابات الديمـوقراطية. أما هذه الزيارة الثانية فالهـدف مـنها هو الانـطلاق في العمل مع النظام الجديد من خلال تفاهم حول شراكة استراتيجية بين البلدين يديرها مجلس وزاري يضم 12 وزيراً من كل بلد تحت قيادة رئيس الوزراء. وهذا المجلس الوزاري يضم الوزراء الذين يمثلون أهم القطاعات التي سيتم التعاون بين البلدين فيها. وهي بالدرجة الأولى قطاعـات الاقتـصاد والصناعة والسياحة والدفاع. وهذا الموضوع ظل محل تشاور بين البلدين طوال الأشهر الماضية. لذلك فإن المجلس سوف يشكل أثناء الزيارة، وسيعقد أول اجتماع له على الفور، والدراسات والمشاورات السابقة أعدت الاتفاقات التي سيتم توقيعها بين البلدين. وستتحدد في ضوئها مسؤولية كل وزارة، وسيتابع المجلس الوزاري خطوات التنفيذ أولاً بأول.
التعاون في المجالات الاقتصادية والإنتاجية مفهوم. وثمة علاقات إيجابية بين رجال الأعمال المصريين والأتراك. وفي ما يتعلق بالسـياحة فإن تنشـيطاً حقق تقدماً خلال الأشهر الأخيرة، خصــوصاً بعدما نظمت الخطوط الجوية التركـية رحـلات مــباشرة مع المدن الساحليـة على البـحر الأحـمر. أما في مجـال الدفـاع، فالمفـهوم أن ثمة تـعاوناً عسـكرياً بين البلدين. لكننا بصدد تنشيط الصناعات العسكرية الدفاعية. إضافة إلى ما هو مـتوافر في مصر من تلك الصناعات، فإن لدى تركيا صناعات مماثلة متقدمة، بمقتضاها استطعنا إنتاج العربات المدرعة والطائرات بلا طيار وتصنيعها إضافة إلى المروحيات والسفن الحربية. وإذا ما تحقق ذلك التعاون فبوسع البلدين أن يدخلا إلى مجال تصدير السلاح.
} حين ألقيت عليه سؤالي عن العلمانية التي أثارها في حديثه أثناء زيارته السابقة، قلت إن الرئيس بشار الأسد قال في حديث أخير له إن سوريا أصبحت الدولة العلمانية الوحيدة في العالم العربي، الأمر الذي يضعنا أمـام نموذجـين للعلمانيـة: واحد استـبدادي وقـمعي في سوريا، والثاني ديموقراطي ومتـسامح في تركـيا، وهو ما يستدعي التساؤل عـن أيهما العلـمانية الحقيـقية. قـلت أيضـاً إن تركيا ذاتـها كانت في السـابق تحكم بنظام علماني مستبد ونافر من الدين لكن حزب العدالة والتنمية نقله إلى نظام علماني ديموقراطي متصالح مع الدين، الأمر الذي يستدعي السؤال نفسه؟
÷ إن العلمــانية كما يفهــمها حزبنا ترتكز على قاعدتين هما الديموقراطية والحياد إزاء كل الأديان. وأضاف إن هناك تطبيـقات مختلفة للعلمانية حتى في العالم الغربي فهي في إنكلترا وأميركا غيرها في فرنسا وألمانيا، خصوصاً في موقفها من الأديان.
استغرقت مناقشة هذه النقـطة بعـض الوقت وقد وافقني أردوغان في نهايته على أن العلمانية ليست شيئاً واحداً، ولكنها في النـموذج التركي الراهـن تنــحاز إلى القاعدتـين السابقـتين، ولا بأس من تسميتها علمانية تركية تمييزاً لها عن غيرها.
} إنه يتمنى ويسعى جاهداً لئلا يـصل الأمـر إلى حـد المواجهـة العـسكرية مع النظام الـسوري، ويرجو ألا يحاول النظام هناك أن يختـبر القـدرة العسكريـة التركية. ويذكر قيادتـه بأن الأمـر من هذه الزاوية أخطر وأعقد مما يظنـون، لأن حـدود تركيا التي يتحرّشون بها هي حدود حلف الأطلسي أيضاً.
إن ما بين الأتراك والـسوريين ليس علاقة جـوار فقط، لكنه علاقـات قرابـة ونـسب ومصـاهرات أيـضاً. فالأكراد والعـلويون والتركـمان يعـيشون على الجانبـين. وللأسف فإن النظام السوري يحاول أن يعبث بهذه العلاقات ويوظفها لمصلحته. وقد رصدت الأجهزة الأمنية التركية اتصـالات ســورية مع عناصر من حزب العمال الكردستاني لمحاولة تصدير التوتر إلى تركـيا، ولـكن هذه الاتـصالات تمـت مع عناصر محـدودة للغاية وغـير مؤثـرة، فضلاً عن أنها لا تزال تحت السيطرة من قبل تلك الأجهزة.
والجهد الذي بذل مع بعض العناصر الكردية تم أيضاً مع عدد من العلويين في المنطقة الحدودية، لكن ذلك كله ليس له علاقة بالمحيط العام للطائفتين. من ثم فالكلام عن نقل التوتر الطائفي إلى داخل تركيا أبعد ما يكون عن الصحة، وهو من خيالات المروّجين له وليس له صلة بالواقع.
هناك مبالغات كثيرة في تصـوير خرائـط المنطقة في حالة ســقوط النـظام السـوري. ولذلك فمـثل تلك الأقاويل ينـبغي أن يتم التعامل مـعها بحذر. ومن وجهة النظر التركية فإنه حتى الحديث عن الانفـصال (العـلوي أو الكـردي) ومن ثم تمـزق الدولة السورية مستبعَدٌ إلى حد كبير. وفي كل الأحوال فإننا سنترك المستقبل لقرار الشعب السوري، علماً بأن تركيا ستحافظ على وحدة التراب السوري. لأن استقرار جيرانها جزء من الدفاع عن أمنها القومي.
صحيح أن الموضوع السوري حمل تركيا بعض الأعباء الاقتصادية فضلاً عن الإنسانية إلا أننا في مساندة انتفاضة الشعب السوري انطلقنا من موقف مبدئي شديد الحرص على احترام إرادة السوريين، وفي هذه الحالة لا بد أن يكون هناك ثمن للالتزام المبدئي والأخلاقي. وكان علينا بدورنا أن ندفع ذلك الثمن الذي تحمّلناه من جراء نزوح 115 آلاف لاجئ سوري إلى بلادنا. غير أن أكثر من 60 ألفاً آخرين انتقلوا للإقامة في أنحاء تركيا.
إن الأزمة السورية ألقت بظلالها بدرجات متفاوتة على علاقات تركيا بكل من العراق وإيران وروسيا. لكن التأثير يظل محدوداً الأمر الذي سمح لأنقرة بأن تحتفظ بحد من العلاقات الطيبة مع موسكو وطهران، وإن ظلت علاقاتها مع حكومة شمال العراق أفضل من علاقاتها بحكومة بغداد.
الربيع العربي يشكل منعطفاً مهماً في تاريخ المنطقة، يعيد إليها الحيوية ويفتح أبواب الأمل للنهوض بدولها. ذلك أن إقامة الديموقراطية في الدول العربية هي بداية الطريق لانطلاقها نحو المستقبل الأفضل.
أياً كانت العثرات التي تواجه بعض دول الربيع العربي فإنها تظل من قبيل الهزات والتوترات التي تمر بها الأوطان في فترات الانتقال. ولأن تركيا عاشت زمناً طويلاً في ظل أوضاع قلقة وغير مستقرة، فإننا نعتبر ما يحدث في العالم العربي أفضل بكثير مما مررنا به في تركيا. التي انتقلت إلى الحكم الديموقراطي بعد أن دفعت أثماناً باهظة لقاء ذلك. لذلك لا ينبغي أن تكون القلاقل الحاصلة في بعض الأفكار سبباً للقنوط أو اليأس. لأنها أعراض طبيعية تسبق تحقيق الاستقرار المنشود.
لا أحبّ مصطلح العثمانية الجديدة، الذي صار من التاريخ المنقضي ويساء فهمه وتأويله ويستخدم استخدامات سلبية تضرّ بعلاقاتـنا مع إخوتنا العرب. فنحن نتعامل مع العالم العربي باعتبارنا أشقاء وأنداداً، وليس من منطـلق تاريخي بأي معيار. وهدفنا ليس فقط أن نتعاون مع أشقائـنا، ولكننا نريد أن نحقق المصالح المتبادلة لشعوبنا جميعها.
ليس دقيقاً القول بأن الربيع العربي أضرّ بمصالح تركيا وعلاقاتها. وحتى إذا كانت هناك بعض الأضرار الاقتصادية التي حدثت، خصوصاً بعد الأزمة السورية، فإن ذلك لا يقارن بالمكسب الهائل الذي تحقق بفضل يقظة الشعوب العربية وانحيازها إلى الحرية والديموقراطية.
للأسف فإن الجامعة العربية لم تستطع أن تقوم بدور فاعل في حل الأزمة السورية، وهو الحاصل أيضاً بالنسبة لمجلس الأمن والمجتمع الدولي، لكننا لا نزال نراهن على وعي الشعوب العربية التي تضامنت مع محنة السوريين، كما أن قضيتنا كبيرة في قوة الشعب السوري وصلابته ونضاله.
الأكراد في تركيا تتحسّن أوضاعهم بصورة مطردة، ووضعهم في الوقت الراهن لا يكاد يقارن به في الماضي. وقد نجح حزب العدالة والتنمية في إزالة التشوهات التي لحقت بوضعهم في ظل الأنظمة السابقة. وأحدث قرار في ذلك الاتجاه اتخذ الأسبوع الماضي، حين وافق البرلمان بالأغلبية على السماح لهم بالشهادة بلغتهم أمام القضاء، الأمر الذي يعزز الاعتراف بخصوصيتهم وهويتهم أمام مؤسسات الدولة.
لم يعد للجيش أي دور سياسي بخلاف الوضع الذي كان معمولاً به في الماضي. وبعد انصرافه إلى مهامه الوطنية الأصلية وبعدما خرج من السياسة، فإنه أصبح يعيش في أفضل حالة ديموقراطية مرت بها البلاد.
موضوع الدولة العـميقة التي عانت منها تركيا كثيراً في الماضي ضعف إلى حد كبير، حتى يمكن القول بأن أصابع الدولة العميقة في السياسة قد بترت ولم يعد لها وجود يذكر. ورغم أنه يتعذر القول بأنه تم القضاء تماماً على تلك الدولة ـ بمعنى شبكة المصالح القوية التي كانت تعمل في الخفاء خارج الدولة وتؤثر على الحياة العامة والقرار السياسي ـ إلا أنه يمكن القول بأنه إضافة إلى انعدام دورها في المجال السياسي، فإن وضعها الآن بين أيدي القضاء الذي لم يتوقف عن تتبع آثارها وامتداداتها في مختلف القطاعات المدنية والعسكرية. من ثم فبوسعنا الآن أن نقول باطمئنان إن تركيا تعيش الآن في ظل دولة سيادة القانون وليس في ظل الدولة العميقة.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول