حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

 

في ليلة من ليالي النصر والفرح الشامل لأهل مكة وما حولها، لنجاتهم من شر أبرهة وقومه أصحاب الفيل، الذين جعل الله كيدهم في تضليل، أقبل شيخ كبير قد جاوز السبعين، في حماسة النصر ونشوة الفرح، وهو عبد المطلب بن هاشم على التزوج في ليلة عرس ابنه عبد الله، فضاعف السرور، وأكثر البشر.

ولم يلبث أن أنجب عبدُ الله محمداً صلى الله عليه وسلم، كما أنجب عبد المطلب حمزة رضي الله عنه، وشاء الله أن يرضع محمد بن عبد الله وحمزة بن عبد المطلب لبان ثويبة جارية أبي لهب، فكانا أخوين من الرضاع، كما كان حمزة عماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله أيضاً أن يموت عبد الله والد محمد صلى الله عليه وسلم، فيكفله عبد المطلب والد حمزة رضي الله عنه فيربيه كما يربي ولده، ولهذا لا نعجب إذا رأينا حمزة قبل إسلامه يعمل مع أخيه أبي طالب على تخفيف الويلات التي كانت تصيب النبي صلى الله عليه وسلم من أعدائه، فيواسيه ويؤازره، ويقويه ويناصره، ويوليه العطف والمحبة، والوفاء والمودة، و كان النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من جانبه حفياً بعمه حمزة الذي لم يكن أسلم بعد.

وإذا تركنا هذا إلى الصفات التي شبَّ عليها حمزة، فإننا نجد أنفسنا أمام بطلٍ عظيم، لا يهابُ الموت، ولا يرهبُ الردى، تعلوه الهيبة، ويكسوه الوقار، حتى ليعجز الناظر إليه أن يثبت نظره فيه، كأنَّه أمام أسد كاسر، أو سلطان قاهر، وقد عرف أهل مكة ذلك من حمزة، فكانوا يخافونه ويرهبونه، ويبتعدون عن طريقه، ولا يقتربون من عرينه، وكان إذا شدَّ قوسَه، أو استلَّ سيفه، مشى الرعب في أوصالهم، ودبَّ الخوف والفزع إلى نفوسهم، والويل كل الويل لمن عاداه أو استباح حماه (كان يقابل الرجل من قريش فيصفعه فيصرعه، فيقوم الرجل يستعطف ويسترحم).

ويحكي المؤرخون في سبب إسلامه، أنَّ أبا جهل مرَّ بمحمد صلى الله عليه وسلم يوماً فأذاه وشتمه، ونال من النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما يكره، من العيب لدينه، فأعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي جهل وانصرف، ولم يردَّ عليه بعض الذي قال، مُتبعاً سياسة الصبر والاحتمال، إذ كان صلوات الله وسلامه عليه، لم يؤمر بالقتال بعد، وكان المسلمون في قلَّة وضعف، يدعون الله أن ينصرهم بإسلام حمزة وإسلام عمر، فاستجاب الله دعاءهم، وأقبل حمزة من رحلة صيد، الذي كان مُولعاً به، وكان من عادته أنَّه إذا عاد من صيده، لا يدخل بيته ولا يلوي على شيء حتى يطوف بالكعبة تيمناً وتبركاً، وبينما هو في طريقه إليها، اعترضته جارية لعبد الله بن جدعان وأخبرته خبر عدوان أبي جهل على النبي صلى الله عليه وسلم، فانتفخت أوداج حمزة وملأه الغضب حتى ليكاد الدم ينبثق من عينيه، وذهب إلى الكعبة مُتجهِّماً عَابساً لا يُسلم على من يُقابله، ولا يرد التحية على أحد، على خلاف عادته فذهب الناس من حوله يتنبؤون بشر مُستطير، وأخذ طريقه في عنف حتى وصل إلى الكعبة، حيث جلس أبو جهل، يقص على الناس ما فعل بمحمد، ولم يكد يتم حديثه حتى رفع حمزة قوسه، فضربه بها ضربة شجَّت رأسه وأسالت دمه، فقام بعضُ أصحابه إلى حمزة، فمنعهم أبو جهل مُعترفاً بخطئه وذنبه، في ذمِّ محمد وسبِّه، واعتدائه عليه.

وهنا أعلن حمزةُ إسلامه، وعاهد النبي صلى الله عليه وسلم على نصرته، والتضحية في سبيل الله حتى النهاية.

وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، في السنة السادسة من البعثة، جلسَ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليستمع إلى كتاب الله والحكمة، ويتعلَّم أمور الإسلام، ويردد كلمة التوحيد ويتلقى عقائد الإيمان.

وما كادت بشاشة الإيمان تخالط قلبه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (أظهرْ دينك) وألحَّ عليه في ذلك.

وإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدخل عليهم الدار ويعلن إسلامه، وينضم إلى حمزة في طلبه، فيؤيده ويوافقه على الجهر بالدعوة، وإذا الوحي ينزل آمراً بالجهر، فصدعَ الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى، وأخذ يدعو علانية إلى توحيد الله، مُبلِّغاً ما أنزل إليه من ربه، ولما رأت قريش إسلام حمزة وعمر، خفَّفت من حِدَّتِها، وهنا أخذت العزَّة الإسلامية ترفرف على النبي وصحبه، فقد أقام المسلمون صلاتهم عند الكعبة، وكلهم عزَّة وإباء، وشجاعة ومَضَاء، وغاظ ذلك قريشاً، فعمدت إلى سلاح المقاطعة والمنابذة، وكتبوا بذلك صحيفة علَّقوها على الكعبة، أن لا يعاملوا بني هاشم وبني عبد المطلب، حتى يتخلَّوا عن مُناصرة محمد، فصبر حمزة ومن معه من بني عبد المطلب وبني هاشم، وصدقوا فيما عاهدوا محمداً صلى الله عليه وسلم عليه، ومكثوا في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع.

وشاء الله أن تفشل هذه المؤامرة فأخذ المشركون يديرون الرأي، ويدبرون الحيلة ليقتلوه.

فكانت الهجرة وهاجر حمزة في سعة من العيش، وبسطة من الرزق، ولما أذن الله لرسوله بالقتال، سير عمه حمزة بن عبد المطلب بعد مضي ثمانية أشهر من الهجرة، ومعه ثلاثون فارساً، إلى شاطئ البحر الأحمر بأرض جهينة حيث لقي أبا جهل بن هشام في ثلاثمائة من أهل مكة، وكاد حمزة مع الثلاثين، يسحق أبا جهل في جيشه اللجب، لولا موادعة مجدي بن عمرو وقيامه بالصلح الذي تمَّ بين الطرفين.

وبهذا يعتبر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أول من قاد الجيش في الإسلام، وأول من عقد له النبي لواء الحرب، وقد لقَّبه الرسول صلى الله عليه وسلم (أسد الله) وكان يقال له أيضاً (أسد رسول الله)، ويسميه المؤرخون (بطل بدر)؛ لأنَّه قام فيها بما لم يقم به غيره من أعمال البطولة، وأول صراع في هذه الغزوة بدأه حمزة حين اندفع الأسود بن الأسود من صفوف قريش إلى صفوف المسلمين، يُريد أن يَهدم الحوض الذي بَنَوا، فعاجله حمزة بضربة بترت ساقه، ثم أتبعها بأخرى فقضى عليه، وكانت تلك هي الشرارة الأولى فاندفع الطرفان يَلتحمان، وأخذ الجمعان يَلتقيان، فقتل حمزة فيمن قتل: شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، ولما  حمي الوطيس حمل على قريش حملة صادقة وهو يقول (أحد أحد) بأعلى صوته، وأخذ حسام حمزة يطيح الرؤوس عن أجسادها، تؤيده قُدرة الله.

ولما انتهت غزوة بدر سأل أمية بن خلف وكان ممن أُسِرَ يومئذ قال: من هو الرجل الذي كان في صفوفكم، وهو مُعلَّم بريشة نعامة في صدره "فقال له عبد الرحمن بن عوف (ذاك حمزة بن عبد المطلب) فقال أمية: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل.

وفي غزوة أحد انطلق حمزة كالسهم من الرمية إلى جيش المشركين، فانطلق المسلمون وراءه حتى قاربوا النصر، ولكن طرأ ما غيَّر الموقف فلم يفر، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم والأخطار تحدق به في شجاعة وعدم مُبالاة، فقتل من المشركين ما يزيد على ثلاثين، وأبى الله إلا أن يجعل حمزة سيد الشهداء فقد كمن له وحشي بن حرب، وباغته بضربة فقتله، وكان وحشي عبداً رقيقاً فقال له سيده جبير بن مطعم، إن قتلت حمزة فأنتَ حرٌّ عَتيق، وجعلت له هند بنت عتبة جائزة كبيرة إن هو فعل؛ لأنَّ حمزة قتل أباها وعمَّها يوم بدر، ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتل عمه حمزة، أقبل حتى وقف على جثمانه، وقال: (رحمك الله أي عم، فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخير، لن أُصاب بمثلك أبداً).

وهكذا استشهد حمزة رضي الله عنه أسد الله، وعمُّ رسول الله، بعد بضع وخمسين سنة قضاها بطلاً مجاهداً مُناضلاً، فرحمة الله عليه في الأبطال الخالدين، ورضي الله عنه في أعلام الإسلام المجاهدين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الثامنة، جمادى الآخرة 1371 - العدد 6).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين