حماية الكنائس واجب شرعي وعمل وطني

 

لا يستطيع عاقل أن يتقبل ما حدث في الكاتدرائية من تفجير وتدمير، وقتل لأبرياء، من أطفال ونساء، وقد أتى هذا الحدث في وقت يستعد فيه النصارى للاحتفال بواحد من أهم أعيادهم، كما أنه يفصل بينه وبين تفجيرات كنيسة القديسيين ستة أعوام، لم يستطع النظام المستبد أن يتعلم الدرس طيلة هذه الأعوام، وأحسب أنه سيظل على حمقه ما دام الاستبداد هو الهدف والكرسي هو المقصد وتفتيت الأمة المصرية هو الغاية، فأفعاله توحي بأنه لا يريد أن تجتمع للمصريين  كلمة، ولا تقوم لها قائمة...

والحق الذي أدين الله به: أن هذا الأصابع الخفيفة ليست بأصابع مصرية وإن ولدت على أرضها وشربت من نيلها، وليست بمسلمة وإن تزيت بزي أهلها وتكلمت بلسانهم، فليسوا بمصريين ولا وطنيين، وليسوا بنصارى ولا مسلمين.

أماكن العبادة تُصان وتُحمى:

ومن أروع ما جاء به الإسلام: حمايته لدور العبادة، حتى وإن كانت الدور غير المساجد، كالبيع والصلوات والكنائس، قال تعالى: ? وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ? (الحج: 39، 40).

قال ابن القيم: قال الحسن: "يدفع عن مصليات أهل الذمة بالمؤمنين ". وعلى هذا القول لا يحتاج إلى التقدير الذي قدره أصحاب القول الأول؛ وهذا ظاهر اللفظ، ولا إشكال فيه بوجه: فإن الآية دلت على الواقع، لم تدل على كون الأمكنة - غير المساجد - محبوبة مرضيةَ له.

لكنه أخبر أنه لولا دفعه الناس بعضهم ببعض لهدمت هذه الأمكنة التي كانت محبوبة له قبل الإِسلام، وأقر منها ما أقر بعده وإن كانت مسخوطة له، كما أقرّ أهل الذمة، وإن كان يبغضهم ويمقتهم، ويدفع عنهم بالمسلمين مع بغضه لهم، وهكذا يدفع عن مواضع متعبداتهم بالمسلمين، وإن كان يبغضها، وهو سبحانه يدفع عن متعبداتهم التي أُقِروا عليها شرعاً وقدراً: فهو يحب الدفع عنها وإن كان يبغضها كما يحب الدفع عن أربابها وإن كان يبغضهم.

وهذا القول هو الراجح إن شاء الله تعالى، وهو مذهب ابن عباس في الآية.

قال ابن أبي حاتم في تفسيره: عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ( لهدمت صوامعُ وبيع) قال: الصوامع التي يكون فيها الرهبان، والبيع مساجد اليهود والصلوات كنائس النصارى، والمساجد مساجد المسلمين.

وعن أبي العالية: " لهدمَتْ صَوَامع " قال: صوامع وإن كان يشرك به! وفي لفظ: إن اللّه يحب أن يذكر ولو من كافر! ( أحكام أهل الذمة/ ج 2 / ص 667، 668).

وابن القيم في رأيه هذا لم يكن مبتدعا وإنما كان متبعا، فلقد جاءت السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لأهل نجران:" ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم، وأن لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملتهم. (البداية والنهاية - (ج 5 / ص 66).

ولما آلت الخلافة إلى أبي بكر رضي الله عنه، بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ أكد في عهده لأهل نجران، أنه أجارهم بجوار الله، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وأرضهم، وملتهم، وعبادتهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وفاءً لهم بكل ما ورد في العهد النبوي لنصارى نجران. (تاريخ الطبري: (3/165).

وهذا عمرو بن العاص يكتب لأهل مصر معاهدة فينص فيها على ما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على: أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص.. (تاريخ الطبري / ج 2 / ص 513 ، 514).

وهذا خالد بن الوليد حين دخل دمشق كتب كتابا لأهلها جاء فيه: أن قد أمنتهم على دمائهم وأموالهم وكنائسهم. (الأموال/ أبو عبيد القاسم بن سلام/ ص 295).

وعلى هذا فإن دور العبادة لغير المسلمين من كنائس وبيع وصلوات يجب على الدولة حمايتها، فإن عجزت الدولة كان على الإفراد أن يقوموا بهذا الدور، والمسلم في هذا العمل يقوم بواجب شرعي، وعمل وطني يتقرب به إلى الله تعالى، حتى وإن اعتقد بطلان ما يؤتى بداخل هذه الدور.

التسامح هو شعار الإسلام:

وأود هنا أن أذكر الجميع – من نصارى ومسلمين_: أن هذه الإعمال الإجرامية تنافي روح التسامح التي جاء بها الإسلام، وتتناقض مع  ما صرحت به آية الإسراء { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقد أقر بهذا التسامح كتاب غير مسلمين منهم:  "ول ديورانت" حيث يقول: لقد كان أهل الذمة -المسيحيون، والزرادشتيون، واليهود، والصابئون- يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيرا في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم. (قصة الحضارة/ ول ديورانت/ ج 13/ ص 131).

وقريبا من هذا يذكر "البطريرك اغنطيوس الرابع هزيم" فيقول: لم يعان المسيحيون في بلاد الشام الكثير من تبدل الأوضاع في السنوات العشر التي عقبت الفتح. فلم يلجأ الفاتحون إلى الشدة ليفرضوا على المغلوبين معتقداتهم الإسلامية بل لبثت سوريا بلداً " مسيحياً " فيها كنائس رائعة ذائعة الصيت على نحو كنيسة القيامة وكنيسة اللدّ والرّها، وحافظت على طابعها حتى نهاية الحقبة الأموية. وكان السواد الأعظم من سكان المدن مسيحياً.

وليس مستغرباً أن يشعر المسيحيون بالطمأنينة التي وفرِّت لهم إلا في بعض الحالات، حيث تأثروا بأحداث محلية الطابع، ومن الوقائع التي تستحق الذكر بناء الخليفة معاوية كنيسة الرّها الكبرى على نفقته بعد أن دمرها الزلزال وإتاحته لابنه يزيد أن يختلط بالمسيحيين ويتردد على رهبانهم. ويروي الأب لامنس، استناداً إلى ابن قتيبة، قصة لا تخلو من الدلالة على علاقة معاوية بالمسيحيين. فعندما طعن في السن أصابه الأرق وكان يفيق كل ليلة على أجراس الكاتدرائية المجاورة لقصره فلم يشأ أن يسكتها بالشدة بل اعتمد الحيلة واكتفى بذلك رغم عدم نجاحه. ولم يعمل على تحويلها مسجد ومثله فعل عبد الله بن مروان لاحقاً. (المسيحية عبر تاريخها في المشرق/ ص 482، 483 بتصرف).

وأما في مصر فقد أقر عدد من الأقباط بهذا التسامح، فهذا مكرم عبيد باشا: نحن مسلمون وطنًا، ونصارى دينًا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارًا، واللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين. (صحيفة الوفد القاهرية عدد 21/ 1/1993م).

بل إن البابا شنودة نفسه قال كلاما هو أكثر من رائع في هذا الأمر، إذ يقول عن حكم النصارى بالشريعة الإسلامية: إن الأقباط في ظل حكم الشريعة الإسلامية يكونون أسعد حالا وأكثر أمنًا، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد؛ نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل:" لهم ما لنا وعليهم وما علينا". إن مصر تجلب القوانين من الخارج حتى الآن، وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مُفصلة،فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الإسلام؟ (الأهرام القاهرية عدد 6/3 / 1985م). 

الإعلام الموجه خانه التقدير:

وهنا أمر يتعلق بإعلام النظام المستبد الحاكم، فقد كان في مخيلة إعلام نظام كهذا أنه حين تعفر قدمه أرض الحدث ومحيط الكنيسة ستتعالى هتافات الترحيب لأشاوس الإعلام من أمثال لميس وخميس وأشباه الرجال وأنصاف الرجال ممن يستأسدون على الشعب خلف الشاشات، لقد كان في مخيلتهم أن أصحاب الدم وذوي القتلى سيرتمون في أحضان الكاميرات يسبحون بحمد النظام ويهتفون له، ويطالبون بإعدام الجماعات الإرهابية، لكن المفاجأة أن المقهورين من ذوي القتلى أنطقهم ألمهم وحقتهم على ذويهم فهتفوا ضد الإعلام الكاذب والنظام المستبد، ونالوا من إعلام الزور وسحرة فرعون.....

وأخيرا: فالدم المصري كله بل الدم البشري كله دم معصوم، وليس لأحد أن يعتدي عليه قتلا أو استباحة، والله تعالى يقول: { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وعلى أتباع الكنيسة أن يدركوا الآن أن المستبد أينما وجد لا يفرق بين دم ودم، ولا بين دين ودين، فدمه وحده هو المقدس المستحق للحياة، ودم غيره ماء رخيص.....

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين