حل المشكلات الأسرية وعلاجها (6) التعويض عن الأضرار بين الخطيبين

 

جاءني سؤال من شابَّة مسلمة، تقول فيه: 

إنني فتاة مسلمة في العشرين من العمر، وقد أنهيت دراستي الثانوية، وانتسبت إلى الجامعة، وقد جاء إلى والدي خاطب من الشباب يخطبني منه، فسأل عنه والدي، وعندما اطمأن إليه، وتعرَّف على أحواله، وعده بعرض الأمر عليَّ، ثم سألني عن موافقتي على خطوبته لي، وشرح لي صفاته وأحواله وثقافته وأخلاقه ودينه، فارتضيت خطوبته، ووافقت عليها، إلا أنه طلب من والدي أن أترك دراستي الجامعية، وأصر على ذلك، فكنت أمام خيارين: ترك الجامعة، أو ترك الخطوبة، فاخترت الأولى وتركت الجامعة، لكن ظروف هذا الخاطب لم تكن مهيئة للزواج فورا، فتأخر الزواج، واستمرت الخطوبة خمس سنوات، كنت خلالها أنتظره، وأُمنِّي النفس بالزواج منه، وأُعِدُّ من الملابس والمفارش ما يناسبه، وكل ذلك من مالي ومال والدي، والآن جاء الخاطب إلى والدي معتذرا له عن إتمام الزواج، وطالبا فسخ الخطوبة لظروف خاصة به، بعضها ماليٌّ، وبعضها اجتماعيٌّ، فما كان من والدي إلا أن قدَّر ظروفه، وقبل اعتذاره، واتفق معه على فسخ الخطوبة، وانتهى كل شيء بالنسبة إلى والدي وخاطبي، أما أنا، فإن الأمر لم ينته بالنسبة لي ؛ فقد لحقني بنتيجة ذلك أضرار كثيرة، بعضها ماليٌّ، حيث إن الثياب التي أعددتها للزواج لن تكون صالحة لزواج قادم، لتقدُّم الزمان، وتغيُّر الموضات، والمفارش التي أعددتها له حسب ذوقه قد لا تناسب ذوق خاطب آخر قد يتقدم لي بعد ذلك، وهذا كله يحملني أضرارا مالية لم أتسبب فيها، والمتسبب فيها الخاطب وحده، بعدوله عن الخِطبة، هذا بالإضافة إلى الأضرار المعنوية التي لحقت بي، فقد تركت الدراسة بناء على طلبه مدة خمس سنوات، ولن أستطيع العودة إلى الجامعة بعد ذلك، بالإضافة إلى أن سِنِّي تقدمت ضمن هذه السنوات الطويلة، فالذي كان يطمع بي من الخُطَّاب وأنا بنت العشرين لن يطمع بي وأنا بنت الخامسة والعشرين، فهل يحق لي في الشريعة والقانون أن أطلب من الخاطب تعويضا عما لحق بي من الأضرار المادية والمعنوية بسبب عدوله عن الخطوبة، يا فضيلة الشيخ؟

أقول في الجواب على هذه المشكلة المعروضة: هذه المشكلة قد عمَّت وطمَّت في مجتمعنا، أقصد مشكلة إطالة فترة الخطوبة لظروف خاصة، وهو أمر غير مستحسن ولا مرغوب فيه اجتماعيا، ولا خلقيا، ولا تشريعيا، والأفضل تقصير الخِطبة بقدر الإمكان، ابتعادا عن التسبب في مثل تلك الأضرار المادية والمعنوية، إذا ما حصل عدول وفسخ للخطوبة بعد الاتفاق عليها، وهو أمر متوقع دائما، لظروف وأحوال كثيرة، فهل إذا ما حصل الفسخ كما هو حال السؤال الآن، ونتج عنه أضرار بالمخطوبة، أو أضرار بالخاطب أحيانا، هل من طريق شرعي أو قانوني للتعويض عن هذه الأضرار؟ 

لم ينص فقهاؤنا السابقون على هذه المسألة، ولم يخوضوا غمارها سلبا ولا إيجابا، وربما كان سبب ذلك أن الخِطبة كانت في زمانهم لا تطول أكثر من بضعة أيام، أو بضعة أسابيع، في أغلب الأحوال، مما لا يتوقع معه حصول أي ضرر بالخاطب أو الخطيبة، إذا ما حصل عدول أو فسخ للخطبة، فإن حدث شيء من ذلك كان مما يتسامح فيه غالبا لقلته.

وقد بحث الفقهاء المعاصرون في ذلك على ضوء قواعد الفقهاء السابقين، وانقسموا إلى أربعة مذاهب:

- المذهب الأول يقول: بوجوب التعويض عن جميع الأضرار على من عدل من الخاطبين للخاطب الآخر، ودليلهم أن العدول هو سبب هذا الضرر، فيجب تعويضه عليه،

- والمذهب الثاني يقول: بعدم وجوب التعويض أصلا، لأن العدول حق لكل من الخاطبين، والقواعد الفقهية لا تجيز فرض التعويض على من مارس حقه.

- والمذهب الثالث يقول: يجب التعويض على من عدل إذا كان عدوله بغير سبب مشروع، لأنه متعسف، فإذا كان عدوله لسبب مشروع لم يلزمه تعويض، لأنه مارس حقه بغير تعسف.

- والمذهب الرابع يقول: يجب التعويض عن الأضرار الناتجة عن غير العدول عن الخطبة، كأن يطلب الخاطب إعداد أشياء معينة ثم يعدل، فإنه يضمن خسارة هذه الأشياء، لأن طلبه إياها خارج عن الخطوبة، أما الأضرار الناتجة عن العدول ذاته فلا تعويض فيها، لأنه حق له، وهو به يمارس حقه، وسواء في ذلك أن يكون عدوله لمبرر شرعي ظاهر، أو لغير ذلك، لأن العدول حقه مطلقا، 

ولعل هذا القول الأخير هو الأقرب والأكثر انسجاما مع قواعد الفقهاء، 

أما القانون الكويتي، وكذلك السوري، وأكثر القوانين العربية، فلم تنص على شيء من ذلك، ولهذا فإن على القاضي في هذه الحال الرجوع إلى أقوال الفقهاء المتقدمة، وتخيُّر ما يراه الأوفق مع العرف منها، وهذا كله في الأضرار المادية، أما الأضرار المعنوية، فكأنني أرى أن عامة الفقهاء لا يرون وجوب التعويض عنها مطلقا، 

والله تعالى أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين