حكمة التشريع -3-

 

 

من رحمة الله تعالى بالمسلمين وحكمته وعدالته أنَّ كل ما شرعه في الإسلام وكلَّ ما دعاهم إليه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الرؤوف الرحيم، إنما قصد به إصلاح حالهم في الدنيا، وتوصيلهم إلى رضا الله وحسن جزائه في الآخرة.

ومن تدبَّر في أصول الإسلام وفي فروعه وفي كل ما جاء به من عقائد وعبادات، ومُعَاملات وعقوبات، وسائر ما فرضه من فرائض، وما حَرَّمه من محرَّمات، وما حدَّه من حدود – تبين أنَّ كلَّ ما جاء إنما هو لخير الناس وتحقيق مصلحتهم بجلب النفع لهم، أو دفع الضرر، أو رفع الحرج عنهم، ولهذا صرَّح القرآن الكريم في عِدَّة آيات بأنَّ الله يُريد اليسر ولا يريد المشقَّة والعَنَت، وأنَّه ما جعل في الدين من حَرَج، وصرَّح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّه لا ضرر ولا ضرار، وبأنَّ الدين يُسْر لا عُسْر، والمقصود إرشاد المسلمين إلى أنَّ الإسلام إنَّما هو لخيرهم ونفعهم، أفرادهم وجماعاتهم.

وهذه نظرة عامَّة في القواعد الخمس التي بُني عليها الإسلام: يرى فيها المنصف أقوى برهان على أنَّ الإسلام أسِّسَ على دعائم، كل دعامة منها أساس لمصالح الناس.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بُني الإسلام على خمس، شهادة أنَّ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان).

فالقاعدة الأولى من قواعد الإسلام هي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذه هي قاعدة القواعد كلها، وكل ما جاء به الإسلام مبني عليها، وهي الهدف الأول الذي قصد إليه القرآن، وفي سبيلها جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، وفي سبيلها احتمل هو وصحبه الأذى والمكاره، وبتوفيق الله ومعونته أبيِّن ما تضمَّنته هذه الشهادة من العقائد، ثم أبين ما تحققه من خير الناس ومصالحهم:

ما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله:

الشهادة لا تكون شهادة حقاً إلا إذا كانت إقراراً باللسان عن علم الشاهد وجزمه بما يشهد به، فشهادة المؤمن أن لا إله إلا الله هي اعترافه بلسانه عن اعتقاده بقلبه أن لا معبود بحقٍّ إلا الله، والمعبود بحق هو الذي تسجد له الوجوه، وتخضع له النفوس غاية الخضوع، عن إيمان بعظمته، وإذعان لألوهيته، وأما خضوع النفوس لخوف أو رجاء، أو مُداهنة أو رياء، فليس عبادة بحق، وكذلك مجرَّد إقرار اللسان لا عن إيمان القلب وإذعانه ليس شهادة بحق، فشهادة أن لا إله إلا الله هي اعتقاد بالقلب، واعتراف باللسان بأن لا معبود بحق إلا الله، والشهادة بهذا هي شهادة بوجود الله، وبوحدانيته، وباتصافه بكل كمال، وتنزيهه عن كل نقص، لأنَّ من شهد بأنَّ الله وحدَه هو المعبود بحق، شهد بأنَّ الله وحده له الكمال المطلق، والكمال المطلق لله يستلزم أن يكون موجوداً، أزلياً أبدياً، واحداً، عالماً، قادراً، مُريداً، لا يَعْزُب عن علمه مثقال ذَرَّة في الأرض ولا في السماء، وليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.

ولهذا قال علماء التوحيد: إنَّ شهادة أن لا إله إلا الله اشتملت على كل ما يجب على المسلم الإيمان به في حقِّ الله تعالى: من وجوده، وبقائه، ووحدانيَّته، ومخالفته للحوادث، وقدرته، وإرادته، وعلمه؛ لأنَّ من شهد بأنَّ الله وحدَه هو المعبود بحق الذي تخضع له النفوس غاية الخضوع عن إذعانه بعظمته، شهد بكماله المطلق واستغنائه عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه سبحانه، وإنما سميت كلمة التوحيد مع أنها اشتملت على كل الإلهيات؛ لأنَّ التوحيد هو الذي دلَّت عليه ألفاظها صراحةً، وأما سائر العقائد الإلهيَّة فقد دلَّت عليها ضمناً.

ما تضمَّنته شهادة أنَّ محمداً رسول الله:

أما شهادة المسلم بأنَّ محمداً رسول الله، فهي اعترافه بلسانه عن اعتقاده بقلبه بأن محمداً رسول الله إلى الناس، أوحى إليه بالقرآن، وأمره أن يبلغه الناس، وأن يدعوهم إلى الإيمان بوحدانيته.

وشهادة المسلم أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله تتضمَّن الإيمان بالقرآن وبما جاء به، فهي تتضمَّن الإيمان برسل الله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر لأنَّ محمداً دعاً إلى الإيمان بهذا كله، فالإيمان بأنَّه رسولُ الله إيمان بأنَّ ما دعا إليه هو رسالة الله تعالى إلى خلقه.

ولهذا قال علماء التوحيد: إنَّ شهادة أنَّ محمداً رسول الله اشتملت على كل ما يجب على المسلم الإيمان به في حقِّ رسل الله وملائكته وكتبه واليوم الآخر.

وما فيه من بعث وحساب وجزاء، وفي الحديث الصحيح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإيمان قال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) [أخرجه البخاري ومسلم].

لماذا بني الإسلام على هاتين الشهادتين؟

أما بناء الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله فلأسباب وأغراض عديدة.

أولها: أنَّ هذه الشهادة هي عقائد تطابق الحق الثابت، وتقرها الفطرة السليمة، ويهدي إليها النظر الصحيح، ويذعن لها وجدان الإنسان، فإنَّ العقل الفطري الذي لم تفسده الأهواء ولا الأوهام يوقن ويؤمن بأنَّ كل مخلوق لابدَّ له من خالق، وكل حركة لابدَّ لها من محرِّك، وأنَّ هذا العالم المحكم صنعه البديع نظامه، لابدَّ له من قادر مُريد يدبِّر شؤونه ويصرِّفُ أموره، ومن عالم حكيم يبدع نَظْمه، ويُهَيمن على سننه، وكذلك يؤمن بأنَّ مدبر هذا الكون لابدَّ أن يكون واحداً لا شريك له، لأنه لو اشترك في تدبير الكون إلهان أو أكثر لاختلفا في التدبير والتصريف، وما استقرَّ مع اختلافهما للكون نظام، ولأنه لو تنافس الخالقون لاضطرب شأن المخلوقين وفسدت الأرض والسماء، وإلى هذا أشار القرآن الكريم إذ قال الله سبحانه: [مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ] {المؤمنون:91}. وإذ قال جلَّ ثناؤه: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا] {الأنبياء:22}.

فالإسلام بني على عقيدة فطرية هي مُقتضى الفطرة الإنسانية، وهي نتيجة النظر الصحيح بالعقل السليم، ولهذا لم يكن البرهان عليها إلا تنبيه الناس إلى أن يفكروا بعقولهم، وينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، وليس شيء أصلح لعقول الناس من مطالبتهم بأن يؤمنوا بما تقتضيه عقولهم، ويتفق وفطرتهم ووجدانهم، وليس شيء أضرّ بعقول الناس من قَسْرهم على الإيمان بعقائد مُعقَّدة مُركَّبة تصادم العقل ويأباها الوجدان.

والبراهين التي أرشد إليها المسلمون ليهتدوا بها إلى عَقَائدهم الفطريَّة، مرجعها كلها إلى إعمال عقولهم وتوجيهها إلى النظر في آيات الكون، وهذا البحث العقلي والنظر في آيات الله في الأرض والسماء هو المفتاح الذي تفتح به أبواب العلوم الكونيَّة، وهو النور الذي تكشف به أسرار الكون والخواص التي أودعها الله في الأجسام، فالله سبحانه قال: [قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {يونس:101}.، وقال: [وَفِي الأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ] {الذاريات:20}، [وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ] {الذاريات:21}. وقال:[أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20) ]. {الغاشية}. 

وهذه الآيات وأمثالها مما جاء في القرآن حاثاً على النظر في ملكوت السماوات والأرض، تهدي إلى الدليل على وجود الإله الواحد القادر العليم، وتفتح أبواب استكشاف العلوم وأسرار الكون ليتم ما أراد الله من عمران العالم، وتسخير ما في السماء والأرض للإنسان.

فالحق الذي لا يجادلُ فيه مُنصف أنَّ العقيدة الإسلاميَّة في الله تعالى، وهي أساس الإسلام وقاعدته الأولى، هي عقيدة فطريَّة فيها خير الإنسان؛ لأنها مقتضى عقله وما يشعر به وجدانه، ولأن برهانها نور يهديه إلى الله سبحانه، وإلى ما في الكون من أسرار، فهي عقيدة فطرية، ودراسة كونيَّة، ولله تعالى الحكمة البالغة.

وثانيها: أنَّ هذه الشهادة اشتملت على العقائد التي تصون كرامةَ الإنسان وتربأ به عن عبادة جماد أو حيوان؛ لأنَّ من يؤمن بأن لا معبود بحق إلا الله، لا يذل ولا يخضع إلا لله تعالى، ولا يلجأ في شِدَّة أو محنة إلا إلى الله سبحانه، ولا يَسأل إلا الله، ولا يَستعين إلا بالله، وبهذا يكون الإنسان حيث وضعه الله أشرف الخلق وأكرمهم، وأما من لا يؤمن بأنَّ المعبود بحق هو الله فإنَّه يَمتهن كرامتَه بعبادة حيوان عاجز مثله، أو عبادة صنم ينحته من الحجر بيده، وفي هذا فوق امتهان الكرامة سخرية بالعقل، وسيطرة الأوهام على العقول، وأي عاقل لا سلطان للوهم عليه يعبد ما لا يضر وما لا ينفع، ومن هو مثله في حاجة إلى غيره؟: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ] {الحج:73}.

وثالثها: أنَّ الإيمان بما اشتملت عليه شهادة أن لا إله إلا الله هو أقوى مُعين للإنسان على احتمال هذه الحياة، وهو خير كفيل له بالرضا والسعادة فيها؛ لأنَّ من آمن بأنَّ الله وحدَه هو المعبود بحق، وأنَّه المنفرد بالكمال المطلق وبالتدبير والتصريف، آمن بأنَّ الخير والشرَّ بيده، وأنَّ الإعطاء والحرمان منه، فإن نالته نعمة ذكر أنَّ الله تعالى هو مصدرها فشكر، وإن أصابته مُصيبة ذكر أنَّ الله سبحانه مصدرها فصبر، فهو في السرَّاء مؤمن شاكر، وفي الضرَّاء مؤمن صابر، وهو راضٍ بما يناله، والرضا هو السعادة.

أما الملحدون الذين لا يؤمنون بالله تعالى، والمشركون الذين يجعلون لله أنداداً، فهم أشقياء تُعَساء لا يؤمنون بمفزع يَفْزَعون إليه في الشدَّة، ولا يشعرون بشعور يخفِّف عنهم أية كربة، وكثير من الملحدين إذا انتابتهم الشدائد أو أدركهم الغرق، ثابوا إلى رشدهم وآمنوا بربِّهم، ولكن حين لا ينفعهم إيمانهم، ولا أرضى لنفس الإنسان وأضمن لراحة باله من إيمان بإله واحد عليم حكيم، إن يمسسه بضرٍّ فلا كاشف له إلا هو، وإن يصبه بخير فلا رادَّ لفضله، هذا الإيمان هو سبيل سعادة الإنسان.

وأما بناء الإسلام على شهادة أنَّ محمداً رسول الله، فلأنَّ الشهادة برسالة محمد شهادة بأنَّ القرآن من عند الله تعالى، وشهادة بأنَّ للناس مَعَاداً إلى الله سبحانه، يحاسبون على أعمالهم، ويجزى كلُّ امرئ بما عمله. 

والإيمان بأنَّ القرآن من عند الله تعالى أساس الاهتداء بهديه، والاستنارة بنوره، والقرآن فيه هدى الناس في كل أحوالهم، وفيه ما يحقق مصالحهم ويقيم العدل بينهم ويرفع الجرح عنهم، فالإيمان برسالة محمد وسيلة إلى هذا الخير كله.

والإيمان باليوم الآخر أقوى وازع للنفس عن الشرِّ، وأقوى باعث لها على عمل الخير؛ لأنَّ من علم أنَّه مجزي يوم الدين بعمله، اتجه إلى الخير واجتنب الشرَّ ما استطاع، وإن زلَّ ندم، وكان دائماً على ذكر من أنه محاسب ومجزي على عمله.

وجملة القول: أنَّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اشتملتا على كل ما يجب على المسلم أن يؤمن به في حقِّ الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن كلَّ ما اشتملتا عليه هو خير للناس، وهو أساس سعادتهم وصلاحهم، وهو مُقتضى الفطرة التي فطر عليها، وفيهما برهان ناطق بأنَّ الإسلام هو دين الفطرة.

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد التاسع، السنة الأولى، جمادى الأولى 1367 مارس 1948 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين