حكمة التشريع -2-

 

بيَّنتُ أنَّ القاعدة الأولى من القواعد الخمس التي بُني عليها الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، تتضمَّن عقائد فطريَّة حقَّة يقرُّها العقل السليم، ويَهدي إليها النظرُ الصحيح. وبيَّنتُ أنَّ هذه العقائد تحقق خير الناس ومصالحهم؛ لأنَّها تجمع قلوبهم على معبود بحق واحد، وتصونُ كرامتَهم عن المذلَّة لمخلوق لا حولَ له ولا قوَّة، وتغذِّي عقولهم بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، وتفتح لهم أبواب العلوم الكونيَّة وسبل استكشاف ما أودع الله تعالى في خلقه من أسرارٍ وآيات، وتُهَوِّنُ عليهم شدائدَ الحياة واحتمال مشقَّاتها. 

وقد أتمَّ الله نعمته على المسلمين وأكمل لهم دينهم الذي ارتضى لهم؛ بأن فرضَ عليهم عباداتٍ أربعاً: هي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجُّ البيت، وصوم رمضان؛ وكلها تهدف إلى تقوية العقيدة وتدعيمها، وفي كل عبادة منها خير كثير للناس؛ لأنَّها تصلح من أحوال الأفراد والجماعات، وتؤمن الجمعيَّة الإنسانيَّة من المفاسد والشرور. 

وقبل أن أفصِّل ما في تشريع كل عبادة منها من حكمٍ بالغة ومَنافع الناس، أُبيِّن بالإجمال بعض الحكم التشريعيَّة العامَّة التي اشتركت فيها هذه العبادات كلها.

حكمة التشريع العامَّة للعبادات:

الحكمة الأولى: 

أنَّ هذه العبادات تقوِّي عقيدة المؤمن وتدعمها، وتزيده إيماناً بالله وملائكته وكتبه ور سله واليوم الآخر. وذلك أنَّ المؤمن الذي شهد بأن لا معبودَ بحقٍّ إلا الله تعالى، وبأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، إذا صَلَّى لله خمسَ صلوات في كل يوم وليلة، وصام للَّه شهرَ رمضان من كل عام، وأدَّى في كل سنة زكاة ماله للفقراء والمساكين، وحجَّ البيت الحرام ومهبط الوحي ومقام إبراهيم، وجدَّ في كل عبادة من هذه العبادات ما يذكِّره بربه وبهدي رسوله: لأنَّه في صلاته يقفُ بين يدي الله، ويقرأ آياتِ الله، ويَرْكعُ ويسجدُ لله، ويولي وجهَه شطرَ بيت الله، وهو في كل أقواله وأفعاله يأتسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويهتدي بهديه. 

وكذلك شأنه في صيامه وزكاته وحجه، يذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيزيد إيماناً على إيمان، ويطمئنُّ قلبه بعقيدته أكملَ اطمئنان.. 

ولا كذلك المؤمن إذا لم يعبد ربَّه بهذه العبادات؛ فإنَّه يغفل قلبه عن ذكر ربه وعن هدي رسوله، وربما أثَّرت هذه الغفلة في عقيدته فيرتاب لأدنى شُبهة، ويزلزل إيمانه لأي ريبة. 

ومن هذا يفهم السرُّ في قول الله تعالى: [و وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا] {الكهف:28}. 

وفي قوله جلَّ ثناؤه: [الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ] {الرعد:28}، فذكرُ الله سبحانه يطمئنُّ القلب إلى الإيمان به ويثبت العقيدة فيه. 

وليس المراد بذكر الله تعالى مجرَّدَ ترديد اللسان لاسمٍ من أسمائه الحسنى، أو تكون حلقات للصياح، وإنما المراد بذكر الله تعالى تذكر ألوهيَّتِه وربوبيَّتِه، واستشعار عظمته وقدرته، وعبادته حقَّ عبادته، وامتثال أوامره خضوعاً لألوهيته.

فالعقائد الفطريَّة الحقَّة التي تضمَّنتها الشهادتان هي أساس الإسلام، وهذه العبادات هي التي تثبت هذا الأساس وتزيده قوَّة، وتدفع عنه أي زلزلة أووهن، وهذه العبادات هي أرومة الشجرة الإسلامية، هي التي ترويها وتغذيها حتى تؤتي أطيب الثمرات بإذن ربها. 

ومن أجل هذا عدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العبادات الأربع من قواعد الإسلام، وتكوَّنت أسس الإسلام من عقائد وعبادات.

الحكمة الثانية: 

أنَّ هذه العبادات امتحان من الله سبحانه للمؤمن واختبار يظهر به درجة إيمانه، وذلك لأنَّ هذه العبادات فيها مشقَّات على النَّفس الأمَّارة بالسوء. فالصلاة كبيرة إلا على الخاشعين، والزكاة بذل من المال الذي تحبُّه النفس وتحرص عليه، والصيام كفُّ النفس عن الطعام والشراب والشهوات، والحجُّ تجشُّم المشاقِّ وبذل المال، والتجرُّد من الثياب، والكفُّ عن كثير من المباحات.

ولا ريب أنَّ تكليف الإنسان بما فيه كُلفة ومشقَّة عليه هو اختبار لدرجة إيمانه ممن كلَّفه، وحرصه على طاعته وامتثال أوامره، فمن صدق في إيمانه لم يخرجْ عن طاعة ربِّه مهما احتملَ من مشَقَّة، وآمن بحكمته وعدله سبحانه في كلِّ ما أمر به مهما خفي على عقله سرُّه وهدفه؛ ومن ضَعُف إيمانه لم يبالِ بأن يخرجَ عن أمر ربه، وارتكن إلى أوهى الأسباب للتحلُّل مما كُلِّفَ به. 

فالإنسان فيما يفعل وفيما يكفُّ خاضع لسلطان عَقيدته ومسيَّرٌ بأمرها، والعقيدة القويَّة تهوِّنُ كلَّ صَعْبٍ، وتيسر كلَّ عَسير، وتقوِّي النفسَ على احتمال المكاره مهما بلغت. ومن هذا يُفهم السرُّ في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: (لا يزني الزاني حين يَزني وهو مؤمن، ولا يَسرق السارق حين يسرق وهو مُؤمن، ولا يشربُ الخمر حين يشربها وهو مؤمن)؛ لأنَّ الإيمان الكامل الصادق يأبى على المؤمن أن يُشهر حَرْباً على إيمانه، وأن يفعل ما يُنافيه، أو يَترك ما يَقتضيه. 

فالعقائد الفطريَّة التي تضمَّنتها الشهادتان سر قلبي، وهذه العبادات امتحان يعرف به هذا السرُّ؛ كما أنَّ الأخلاق مَلَكاتٌ نفسيَّة، والأعمال دلائل هذه الملكات؛ فكما أنَّ حِلْم الحليم إنما يُعرف إذا امتحن بما يُغضب، وصبر الصبور يعرف إذا امتحن بما يفزع، كذلك إيمان المؤمن إنَّما يعرف إذا امتحن بأن يَعبد من آمنَ بِه، ويطيعه فيما أمر به، وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] {العنكبوت:2-3}.

الحكمة الثالثة: 

أنَّ هذه العبادات هي الشكر الحق للمنعم؛ وذلك أنَّ الله سبحانه أنعم على عباده بنعم لا تحصى، وفرضَ عليهم أن يَعبدوه شكراً على نعمه وتقديراً لها. وقد قال تعالى: [وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ] {البقرة:152}، وليس شكر المنعم مجرَّد حمده والثناء عليه باللسان، إنَّما الشكر الحق للمنعم هو طاعته فيما أمر به، وعبادته كما طلب أن يُعبَد، وفعل ما يُرضيه واجتناب ما يُسخطه. وأما حمد المنعم بالأقوال وإسخاطه بالأفعال، فهذا ليسَ هو الشكر الذي طالب الله به عباده. 

ومن هذا نفهمُ السرَّ في قول الله سبحانه: [إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ] {يونس:60}، وقوله عزَّ شأنه: [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ] {سبأ:13}، فلو كان الشكرُ مجرَّد ترديد اللسان كلمة الحمد لله، لكان أكثر الناس يشكرون، وكثير من عباد الله شكوراً، ولكن الشكر هو عبادة المنعم حقَّ عبادته، والوقوف عندَ حدوده، والكفُّ عما يسخطه. والشكر بهذا المعنى أكثر الناس لا يَقومون به، وقليلٌ من الناس الشاكرون. 

فالعقيدة الإسلاميَّة التي تضمَّنتها الشهادتان نعمةٌ على من وفَّقه الله تعالى إليها، وهي إلى سائر نعم الله على الإنسـان تستوجب الشكر والتقدير، ولا شكرَ ولا تقدير أفضل من عبادة المنعم والتوجه إليه؛ ومن أجل هذا بُني الإسلام على العقائد والعبادات. 

الحكمة الرابعة: 

أنَّ هذه العبادات هي شعار الموحِّدين وآية المسلمين، وكل عقيدة لابدَّ لها من شعار يُعلنها ويدلُّ عليها لأنَّ الإيمان سِرٌّ قَلبي، والأعمال هي عُنوانه، والبرهان عليه. فهذه المساجد والجماعات والجُمَع والأذان، وهذه الظواهر في الفطور والسحور، وهذه الجموع للحجِّ وكل ما تُقام به هذه العبادات هي شعائر ودلائل تدلُّ على عقيدة خاصَّة، وتميز أمَّة خاصَّة. ولهذا ورد في بعض الأحاديث أنَّ المؤمن يمتاز عن الكافر بالصلاة، ولهذا حاربَ أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، وقال: لا أسالمُ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، ذلك لأنَّها كلها شعائر الدين، والعقيدة مصباح وهذه العبادات نوره، والعقيدة يَنبوع وهذه العبادات فَيضُه. ومن أجل هذا بني الإسلام على العقائد والعبادات. 

الحلقة السابقة هــــنا

وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد التاسع، السنة الأولى، جمادي الأولي 1367 مارس 1948).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين