حكمة التشريع -1-

 

بعضُ المسلمين خاطئون في فَهْمِ المراد من حِكمة الله تعالى فيما شَرَعه من الأحكام، وفي فهم العلاقة بين الحكم الشرعي وحكمة التشريع، وبناء على خطَّتِهم في فَهْم هذين رتَّبوا نتائج خاطئة، وقرَّروا نظريات فاسدة، وتحلَّلوا من كثير مما كلَّفهم الله تعالى به، ولم يُذعنوا لكثير من أحكامه.

فمنهم من يقول: الحِكْمة في فرض إقامة الصلاة على المكلف أنَّها تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فمن انتهى عن الفحشاء والمنكر بقوَّة إرادته وحسن تربيته لا تُفرض عليه إقامة الصلاة، والحِكْمة في فرض الصيام أنَّه يضعف في النفس الناحية البهيميَّة، ويقوي فيها الناحية الملائكيَّة، و يشعرها بألم الجوع والمرض والظمأ فيعوِّدها الرحمة بالمساكين، فمن قوَّى نفسَه الملائكيَّة بأي نوع من أنواع الرياضة النفسيَّة، وعوَّدها الرحمة والبر بالفقراء، لا يفرض عليه الصيام، وهكذا فَهِموا لكلِّ تكليف حِكْمة، وجزموا بأنَّ ما فهموه هو وحدَه حكمة الله سبحانه فيما شرعه، وأنَّ حكم الله جلَّ وعلا يدور مع ما فهموه من حكمته وجوداً وعدماً!.

ومنهم من لا يُذعن للحكم إذا لم يُدرك عقله حكمة تشريعه، أو إذا لم يتَّفق الحكم والمصلحة حسب تقديره، فلا يُذْعِنُ لتحريمِ أكل لحم الخنزير؛ لأنَّه لم يَثْبت ضررُ أكلِه، ولا يُذعِن لقطع يد السارق، لأنَّه لا يتفق والإنسانيَّة حسب تقديره.

وعلى هذه النتائج الخاطئة، والنظريَّات الفاسدة، أهملوا كثيراً من الفرائض والواجبات، وتحلَّلوا من كثير من التكليفات واستباحوا كثيراً من المحظورات، وزعموا أنَّهم مُفكِّرون ناظرون إلى روح الشريعة ومَعْقولها لا إلى ألفاظها وحروفها.

والحقيقة أنَّ هؤلاء ضَعُفت إرادتهم عن الوقوف عند حدود الله سبحانه، وغَلبت أهواؤهم على عقولهم، فلم يجدوا عزيمة صادقة يوجِّهون بها نفوسهم إلى القيام بما فَرَضَ الله تعالى، والامتناع عما حرَّم الله سبحانه، فاستمرأوا الحياةَ الإباحيَّة، وحاولوا ستر ضعف إرادتهم، وغلبة أهوائهم عليهم، بهذه السفسطة الكاذبة، والمعاذير الباطلة.

وإذا أراد الله تعالى بعبدٍ سوءاً أضلَّه على علم، وزيَّنَ له سوء عمله حسناً.

وهذه كلمة مُوجزة فيها إن شاء الله بيان الحق وكشف الصواب في هذا المقام، والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ممَّا لا ريب فيه أنَّ الله سبحانه حكيم، ما شرع حُكماً من أحكامه عبثاً، ولا فرض على عباده فريضة، ولا حرَّم عليهم محرَّماً، ولا أباح لهم مُباحاً، إلا لغاية قصد إليها وحِكمة علمها.

ومما لا ريب فيه أنَّ الله سبحانه عليم لا يَعزُب عن علمه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء، وأنَّ عباده ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، فهو سبحانه يعلم من مصالحهم مالا يعلمون، ويحيط من خفايا شؤونهم بما لم يحيطوا به.

وقد قضتْ رحمة الله تعالى لخلقه وعدله فيهم أنَّه ما قصد بحكم شرعه إلا مصلحتهم هم، لأنَّهم هم الفقراء إليه، وهو سبحانه الغني الحميد، وهذه المصلحة التي قصدها الشارع بالحكم، هي حكمة تشريع الحكم، وهي إما تحقيق نفع للناس، أو دفع ضرورة أو رفع حرج عنهم، فكلُّ حكم شَرَعه الله تعالى فحكمة تشريعه مَنْفعة للناس، أو درء مَفْسدة عنهم. 

وإلى هذا أرشد الله سبحانه في كثيرٍ من آي الذكر الحكيم، وأرشد رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه:

قال الله تعالى في إقامة الصلاة: [وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {العنكبوت:45}. وقال سبحانه في إيتاء الزكاة: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] {التوبة:103}. وقال جلَّ ثناؤه في فرض الصيام: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}. وقال عزَّ شأنه في فرض الحج: [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ] {الحج:26-27}.

وقال تعالى في المحيض: [قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ] {البقرة:222}. وقال في إباحة الفطر في رمضان لمن كان مريضاً أو على سفر: [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185}. وقال في إباحة التيمم لمن لم يجدوا ماءً: [مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ] {المائدة:6}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم تزويج البنت على عمَّتِها أو على خالتها: (إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) [رواه الطبراني في الكبير، وصحَّحه ابن حبان]. وقال صلى الله عليه وسلم في تحريم بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه: (أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحكم مال أخيه؟) [رواه البخاري].

ومن استقرأَ الأحكام الشرعيَّة وبحث في حكمة تشريعها تبيَّن له أنَّ الله تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصالح الناس.

ولكن بعض الأحكام قد يكون للعقل سبيل إلى إدراك المصالح المقصودة بها من النصوص نفسها التي شرعتها، أو من الدَّلائل والأَمَارات التي تُستنبط بها.

وبعض الأحكام لا يكون للعقلِ سبيلٌ إلى إدراك المصالح المقصودة بها؛ لأنَّ الله سبحانه استأثر بعلم حِكمتها ليختبر إيمان خَلْقه، وإذعانهم وامتثالهم بمثل اختلاف عدد الركعات في فرائض الصلاة، فالصبح ركعتان، والمغرب ثلاث، وكل من الظهر والعصر والعشاء أربع، ومثل أنَّ الركعة الواحدة فيها ركوع واحد وسجودان، ومثل أنَّ ركن الحج الوقوف بعرفة لا بأي جبل أو مكان آخر، وكل ما شرعه الله تعالى من التكليفات سواءاً كان تكليفاً بفعل واجب، أو تكليفاً بالكفِّ عن محرَّم فيه ناحيتان: ناحية أنَّه تكليف وإلزام من الله اختبر به صدق إيمان المؤمن وامتثاله لما كلَّفه به، وناحية أنَّه و سيلة لغاية هي مصلحة الناس بجلب النفع لهم، أو دفع الضرر أو الحرج عنهم، وهذا الابتلاء والاختبار حكمة قصدها الله تعالى بتشريع الأحكام، كما أنَّ هذه المصالح التي توصل إليها الأحكام حكمة أخرى قصدها الله بما شرعه من الأحكام.

فإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجُّ البيت، وكلُّ ما كلَّف الله به عِبادَه، هو وسيلة لغاية هي مصالحهم، ولكنها وسيلة مقصودة لله سبحانه، قصد بها ابتلاءَهم واختبارهم، كما قصد بها نفعهم ودفع الضرر عنهم، فمن ترك الوسيلة بزعمه أنَّه وصل إلى الغاية من غير طريقها، فقد سَلَكَ غيرَ سبيلِ الله سبحانه، وعطَّلَ حِكمةً قصدها الله تعالى، ورسب في الامتحان الذي امتحن الله تعالى به إيمانه وإذعانه لأوامره وأحكامه.

ومن أراد مثلاً يُقرِّبه من فهم هذه الحقيقة، فليفرض أنَّ مَلِكاً كلَّفَ أحد ضُبَّاطه أن يسافر إلى ولاية في مملكته ليسلِّمَ وَالِيها ألفي جنيه تبرَّع بها لمنكوبي الوباء في تلك الولاية، فإذا قال الضابط: إنَّ الحكمة المقصودة من سفري هي وصول المبلغ إلى الوالي، وأرسل إليه المبلغ حوالة بالبريد، فلا شكَّ أنَّ هذا لم يقمْ بما كُلِّف به، وأضاع حكمةً قصدها الملك من سفره بها، واستحقَّ العقوبة على عدم امتثاله أمره. 

فالله سبحانه – لحكمة يعلمها – قصد تحقيق مصالح عباده، وقصد أن يكون تحقيق مصالحهم عن طريق عبادته لا عن أي طريق يختارونه هم، فهو جلَّ ثناؤه أراد أن يَنتهوا عن الفحشاء والمنكر عن طريق الصلاة، وأن يضعفوا بَهِيميَّتَهم عن طريق الصيام، [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ] {القصص:68}.

على أنَّ لله سبحانه حِكَماً عديدة في تفصيل كلِّ وسيلة: فمن عطَّل الوسيلة لأنَّه وصل إلى الغاية من غير طريقها، فقدَ الحِكَم العديدة في الجزئيات، فإقامة الصلاة الغاية منها الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، ولكن في الوضوء المشروط لها تَعْويد النظافة، وفي استقبال القبلة فيها توحيد الوِجْهة، وفي أدائها جماعةً التعاون التآلف وإظهار شعائر الدين، وكل هذا يُضيِّعه المكلَّف بسفسطته الكاذبة، وقوله أنا انتهيت عن الفحشاء والمنكر فلا تفرض عليَّ إقامة الصلاة!.

 فمن لم يقمْ بما كلَّفه الله تعالى به زاعماً أنَّه وصل إلى الغاية من التكليف فهو جَاهل بحكمة الشارع فيما كلَّفه به، ومُتنكِّبٌ سبيلَ الله تعالى الذي اختارَه سبحانه لاختبار عباده، وتحقيق مَصْلحتهم، ومن لم يُذعنْ لحُكمٍ شرعه الله زاعماً أنَّه لم يدرك عقله حكمته فهو مُتخذٌ من قصور عقله وقِلَّة عِلمه سبيلاً إلى عدم الإذعان لحكم العليم الخبير.

والله سبحانه ما أرشد عباده لحكمة تشريعه إلا ليحملهم على تنفيذ أحكامه بوازع من ضمائرهم، وحافزٍ من حرصهم على مَصَالحهم، ولكن الإنسان كما قال تعالى، ظلوم جهول، ولظلمه وجهله عكس الآية، واتخذ من بيان حكمة التشريع وسيلة إلى تعطيل الأحكام، وعدم الإذعان لها، والتحلُّل من كثير مما كلَّفه الله به، والهدى هُدى الله يؤتيه من يشاء.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد السادس المجلد الأول صفر 1367 ديسمبر 1947 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين