حق اليتيم على المجتمع

 

من أحكم الأصول التي أقام عليها الإسلامُ مجتمعَه الفاضل، ومن أكرم السنن التي أوجبها على المسلمين كي تتوثَّق عروتهم وتشتد شوكتُهم، وترقى في العالمين أمَّتُهم حتى تكون خيرَ أمَّة أخرجت للناس، هذه القاعدة التي سبق الإسلام إليها، وكان أول من دلَّ المصلحين عليها، وهي تضامن أفراد الأمَّة وتكافلهم وتعاونهم، حتى كأنَّهم الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر.

وأول ما تجب رعاية هذه القاعدة فيه، وتطبيقها عليه كفالة اليتيم الذي فقد عَضُدَه وناصره، وعَائله وكفيلَه، فإنَّ ضعفه يُغْري المعتدين به، ويشجِّع الطامعين فيه، لاسيما إذا كَثُر ماله واتَّسعت ثروته، وأَمِنَ المختالون لماله كل حسيب ورقيب، فمن أجل ذلك غلَّظ القرآن الكريم، الوعيد لمن تحدثه نفسه بظلم يتيم، وتوعَّدهم بما يزلزل قلوبَهم ويفزع نفوسهم كي يكفوا شرورهم إن كانوا يَعقلون، فقال سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا] {النساء:10}، وكرَّر سبحانه التحذير من هذه السيئة الكبرى والآفة العُظمى، بهذه الآية الكريمة فقال جلَّ شأنه: [وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ] {الإسراء:34}.

ولقد كان لهذا الوعيد المجدد، وهذا النكير المشدَّد في أنفس المسلمين الأولين أكبر رهبة وأشد خشية، حتى امتنعوا من ولاية أموال الأيتام والوصاية عليهم، فنشأ من ذلك تضييع لليتامى وتَعطيل لمصالحهم، وذلك نَقيض ما يُريد الله تعالى لهم من الخير والرحمة، والتربية الحسنة والرعاية الكريمة، فتطلَّع المسلمون إلى السماء يَنتظرون حلَّ هذه العقدة وتدبير هذه المشكلة.

ولجأوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه كيف يُوفِّقون بين وقاية أنفسهم من هذا الخطر الشديد، في الإشراف على أموال الأيتام وولاية مَصَالحهم، وبين رعايتهم وتدبير أمورهم، هنالك جاءهم القرآن الكريم يوضِّح لهم ما التبس عليهم، ويفصل لهم الأمر أحكم تفصيل، فقال سبحانه: [فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ] {البقرة:220}. فقد بيَّنت هذه الآية الطريق القويم، الذي يصلح شأن اليتيم ويُطهِّر نفوس الأوصياء، ويجعل الإشراف على هؤلاء قُربةً يَنال بها المصلحون ثوابَ الله تعالى وحُسْنَ الجزاء، فقد دعت المسلمين إلى أن يُخالطوا الأيتام مخالطةَ أخوةٍ بَارَّةٍ، وكفالة رحيمة، وإصلاح مخلص، وإرشاد حكيم، فعلى الوصيِّ أن يُراقب ربَّه، ويخلص النية في عمله حتى تكون وجهته نفع اليتيم، وصلاح شأنه وإحسان تربيته وهدايته إلى الفضيلة والخير، وتجنيبه مواطن السوء ومَزالق الأخلاق، لينشأ نشأةً فاضلةً يَبتغيها الوالدُ لبنيه، ويَرتضيها الأخ المخلص لأخيه، وبذلك يَستوجب الوصيُّ التقي المنزلةَ الكريمة، والعيشة الهنيئة في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الشريف، فقد روى البخاري وغيره عن سهل ابن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا) وأشارَ بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما. 

وما كان لامرئ يخشى الله ويتَّبع نبيه صلى الله عليه وسلم ويهتدي بهداه أن يحرم نفسه من هذه الجنَّة العالية، والصحبة الراضية لرسول الله صلى الله عليه وسلم طمعاً في حُطام الدنيا، وجشعاً في قليل من المال يأكله مما تحت يده، فيخون أمانته، ويضيِّع آخرته ويفسد ضميره، ولذلك صوَّر القرآن الكريم عملَه الخبيث، الصورة التي يَستحقها من الشناعة والتقبيح، فقال سبحانه: [وَآَتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا] {النساء:2}. أي: ذنباً عظيماً.

وكل هذا الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، يدلُّ أوضح الدلالة على أنَّ الشارع الحكيم حريص على تكوين العناصر الصالحة في الأمَّة، وإعداد الأيدي القادرة على الإنتاج والاستغلال.

ولتحقيق هذه الحكمة وبلوغ هذه الغاية أمرَ الله تعالى الأوصياء أن يعمَلوا على ترشيد هؤلاء اليتامى، واختبارهم في تدبير الأعمال وتدريبهم على تثمير الأموال، فقال سبحانه: [وَابْتَلُوا اليَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا] {النساء:6}.

وفي تضمُّن هذه الآية لمزيد من الاحتياط، والتنبيه إلى التوقِ من انتهاز الفرصة السانحة لاستغلال مال اليتيم قبلَ رُشْده، آية بينة على ما يعلمه الله سبحانه وتعالى من اتجاه المطامع، إلى أكل أموال هؤلاء الضعفاء، طَمعاً في ضعفهم، واعتماداً على قِلَّة حيلتهم، وحسبك أنَّ الله تعالى يختم هذه الآية الكريمة بقوله جلَّ شأنه: [وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا]. وهذه موعظة كافية شافية، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وهل يستطيع من قرأَ في كتاب الله تعالى أنَّ مال اليتيم نارٌ في بطون من يأكلون أموالَ اليتامى، وأنَّ الله الذي أنذره هذه النار رقيب عليه وحسيب له – هل يستطيع أن يحدِّث نفسه بالطمع فيهم واختلاس أموالهم، كلا إنَّ في ذلك لعبرة لمن يخشى ولمن خاف مقام ربه، ونهى النَّفس عن الهوى.

هؤلاء الصالحون المتقون، هم الذين يَستجيبون لربهم، فيفعلون ما أَمَرهم، ويُسارعون إلى ما حضَّهم عليه، ورغَّبهم فيه من الشفقة والرحمة باليتامى الفقراء، الذين لا مالَ لهم.

وجعل رعايتهم وإطعامهم في أيام الشدَّة والعَوَز من المجاهدة التي لا يَستطيعها إلا أصحاب الضمائر الحيَّة، والنفوس الزكيَّة، فأمرهم بإكرام الضعفاء العاجزين عن كسب ما يحفظُ حياتَهم، و يصلحُ شأنَهم ويدفع بُؤسَهم، فقال تعالى: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَةٍ(13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ(15) ]. {البلد}. 

إنَّ من يؤدي لهذا اليتيم حقَّه، ويمنحه رعايتَه لهو الذي يشكرُ الله له ويتقبل عنه أحسن ما عمل، ويصفه بقوله سبحانه: [الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21) ] {الليل}.

ويكفي الأوصياء والأغنياء في الموعظة والعبرة بكتاب الله تعالى هذه الآية الكبيرة في مدلولها القصيرة في لفظها فليتدبروها وليأتمروا بها، قال جلَّ شأنه: [فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ] {الضُّحى:9} أي: فلا تذله؛ بل ارفع نفسَه بالأدب، وهَذِّبْه بمكارم الأخلاق ليكون عضواً في جماعتك، يَنفعها ويَرفعها، ولا يُفسده الذلُّ والهوان فيكون جُرثومة فساد يتعدَّى أذاها إلى كل من يخالطها من أمتك.

ولو عَلِمَ الناسُ ما في إهمال تربيةِ الأيتامِ من الفساد في الأمَّة لقدروا عناية الله تعالى بأمرهم في كتابه قدرها ولبذلوا من سعيهم ومن مالهم في إصلاح حال الأيتام كلَّ ما استطاعوا، ولو أحسَّ كلُّ واحدٍ بأنَّ الموتَ قَريبٌ منه وأنَّه هدف لنبله لا يدري متى يأخذه من ولده فيتركه إما غنياً يأكل مالَه الأوصياء، أو فقيراً يستذلُّه الأدنياء، لتسابقوا إلى تقويم أمرِ اليتامى تسابقهم إلى اللذَّة والنعيم، فإنَّ أحب البيوت إلى الله تعالى بيت يكرم فيه اليتيم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة منبر الإسلام السنة الثامنة، ربيع الأول 1370 - المجلد 2 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين