حَقيقَةُ السُّنَنِ الربانيةِ وخصائصُهَا

1- حقيقة السنن الإلهية:

أفاد الدكتور عبد الكريم زيدان أنها:

الطَّريقةُ المُتَّبَعَةُ في مُعاملة الله تعالى للبشر؛ بناءً على سلوكهم وأفعالهم، وموقفهم من شرع الله وأنبيائه، وما يَتَرتَّب على ذلك من نتائجَ في الدنيا والآخرة. عبد الكريم زيدان / السنن الإلهية ص (10).

وَصفــــوةُ القَـــــــول:

إنَّ السنن الإلهية هي قوانين تحكم حركات الفرد والمجتمع، كما تحكم سكنات الكون والطبيعة!

ومن السنن ما يستهدف مَجموعَ الأمة دخولًا أوليًا فيها، والفردُ جُزءٌ مِنهَا؛ كَسُننِ التدرج، والتغيير، والتداول، والتدافع بين الحق والباطل!

وَمِنَ السنن ما يَتَوجَّهُ إلى الأفراد، وَبِمَجْمُوعِهم تَتَكَوَّن الأُمَّة، وهذا نِطَاق كِتَابنا؛ فإنَّنا سنذكُرُ لوامعَ السنن الإلهية التي يُنَظِّمُ بها العبدُ شؤون دينه ودنياه، وَيُصلِحَ ما بينهُ وبين الله!

2- خصائصها:

إن أشهر تلك الخصائص ثلاث، إليك بيانها بلا إسهاب ولا إطناب:

أولًا: الثبات:

قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]

رسالة الآية:

إن السنن الإلهية ثابتةٌ لا تَتَبَدَّل، ولا تَتَغَيَّر أو تَتَحَوَّل؛ وهذه من علائم البشائر لنا؛ ذلك أنَّ أعمالنا تُصبِحُ كَمُقدماتٍ لِمُخرجَاتٍ لا تبديل فيها؛ كَأن تَزرع شجرة تُفًَّاح فَلا تُثمِرُ موزًا أو تينًا، فهذه سنة الله تعالى في خلقه، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]!

وهذا الذي دفع الكيلاني أن يَرفض مبدأ إعادة التاريخ نفسه، مُستندًا إلى أن ثمةَ قوانين تحكم الأحداث والظواهر، وأن الخُروجَ عليها كَالخُروج على قوانين التنفس والغذاء، وإن مَنْ أَتقَنَ فقهها استمَرَّ في الحياة، وتفوق في ميادينها، أما مُخَالِفُوهَا فَتَجري عليهم أحكام القانون؛ لِتَتَكرَّر نتائجه لا أن يتكرر الحدث نفسه! د. ماجد عرسان الكيلاني / هكذا ظهر جيل صلاح الدين، وهكذا عادت القدس ص (291).

ولذا يقول د. علي الصلابي:

إنَّ السُّنَنَ لا تُجَامِل أحدًا، مُسلمًا كان أو كَافرًا، مُخْلِصًا كان أو منافقًا، اللهُمَّ إلا أن يكون استنثاءً آتٍ لإعلانِ سُنَّةٍ خَارِقَةٍ لا جَارِية، كَنَارِ إبراهيمَ، وعصى موسى، وحوتِ يُونُسَ؛ فإنها جرت على خلاف القاعدةِ تَأييدًا من الله لأنبيائه!

ثانيًا: العموم والشمولية:

جعل الله تعالى سننه ماضيةً في أجزاءِ الكَون كله، دِقَّهُ وَجُلِّه، فَإليكَ الطوافَ مثلًا:

إنَّ من علائمِ عُبودية المخلوقات لله تعالى؛ طوافها كلها طوعًا أو كرهًا، ولا يكون الطواف إلا يسارًا، وما الإنسان في الكون إلا حلقةً ضئيلةً في سلسلةٍ طَويلةٍ، وإنَّ أيَّ جسم يغادرُ نِطاقَ الجاذبية الأرضية يطوف تلقائيًا باتجاه اليسار؛ وفق سنن العزيز الغفار!

بل إن كل من ابتغى طوافًا تجده يأخذ في الطواف يسارًا؛ بِحَرَكَةٍ قلبية لا يقصدها؛ لئلا يشذ أحدٌ عن عُموميَّةِ السنن الإلهية، والقوانين الربانية، ولك أن تَستَيقن بِمَا أقولُ بِمُلاحظة أهل الرياضة وهم يجرون في حلقة دائرية؛ فإنها لا تكون يمينًا قط!

أخي:

إن َعُمومَ السُّنن يجري على أَعلامِ الأنبياء والمرسلين؛ كما يجري على أقزامِ الإنس والشياطين، كَسُنَّةِ اللهِ في الخَطايا والسيئات؛ فإنه من {يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123]!

فهذا آدمُ لمَّا أكل من الشجرة أخرجه الله من أُولِي العَزمِ من الرُّسُلِ بِقَولِهِ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، مع أنَّهُ أَبُوهم، وهو الذي شَرَّفه الله بِمَا لم يشرفْهُم به؛ فَإِنَّهُ خلقَهُ بِيَديه، وَأَسجدَ له ملائكته، إلا أن الطَّاعةَ فَوَّقَتِ الأبناءَ على أَبِيهم لِمَعصِيَتِه، وَعاقَبَتْهُ سُنَنُ رَبِّهِ بِعُقوباتٍ عَشرةٍ:

فقد كُشِفَت سوأتُه، وَأُخرج من الجَنَّة، وفُرِّقَ في موضع النزول بينه وبين زوجه؛ فَهُو بالصفا، وهي بِالمَروة [ابن كثير / قصص الأنبياء وتعليقاته ص (28) وقد جاء في المسألة آثار كثيرة، وهذا الأثر عن السدي، بإسناد لا بأس به]، ونزل إلى دارٍ فيها يشقى، وَجُعِلَت سجنًا له ولأولاده، وسُلِّطَ عليهِ إبليسُ وَكَذا على ذريته، وجعل الله بعضَهم لبعض عدوًا، وَقَرنَ اسمه بالمعصية؛ فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وَصَيَّر جلدَهُ مُظلمًا بعد أن كان منيرًا، وعاتبه بِقَوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22]!. ذكر أبو حيان الأندلسي قول ابن عباس وقتادة وابن جبير: أن ثياب آدم وحواء كانت الظُّفْر، فلما أكلا نزع منهما فبدت سوءاتهما، وبقي منه على أطراف الأصابع قدرًا قليلًا؛ ليتذكرا المخالفة؛ فيجددا الندم، خاصة أن أكثر ما يرى العبد من بدنه أطراف أصابعه. انظر: تفسير البحر المحيط (4/280)، وفي الآية أقوال عديدة!

وهذا يونُسُ عليه السلام لمَّا خرج مُغاضِبًا من بلدةِ دَعوتِه نينَوَى العراقية، وَظَنَّ أنَّ اللهَ لن يُضَيِّقَ عليه؛ حُبِسَ في بطن الحوت، وجاء الأمر الإلهي لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]!

وقد هُزِمنَا يوم أُحُدٍ لمَّا خالفْنَا، ويوم حُنينٍ في الجولة الأولى لمَّا أعجَبتْنَا كثرتُنَا، في حين نصرنا الله عز وجل يوم بدر على قِلَّتِنَا وَذِلَّتِنَا، فَهَذِه سُنَّةُ اللهِ فِي الخَلقِ، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يفقهُون!

ثالثًا: التدرج:

خُلِقَ الإنسانُ عجولًا، وعلى صفته هذه جُعِلَ مَفطُورًا مجبُولًا، لِيقضِيَ الله أمرًا كان مفعُولًا، وإنَّ الله أجرى سننه بما لا ينسجم مع تَعَجُّلِ المُكلَّفِين؛ فإنَّه سبحانه لا يستجيب لِعَجلةِ المُتَعَجِّلين؛ فَكُلُّ شيءٍ عندَهُ بِمقْدَار!

ومن دقيق ما ينبغي للعبد تأمله؛ أن الله يجري سنة التدرج على عمر العبد قطعة واحدة، كما يجريها على ساعاته وأيامه، وشهوره وأعوامه؛ ذلك أن أثر الفعل الإنسي يأتي بعده غالبًا لا مقترنًا معه؛ كالغبار إذا انفصل عن الحائط حال سقوطه، فإنه يكون عقبه لا معه، ولهذا كان من ذكاء السلف أنهم تدبروا أعمالهم في كامل أعمارهم دفعة واحدة، كابن سيرين الذي قال: عَيَّرْتُ رجلًا بالفقر؛ فافتقرتُ بعد أربعين عامًا!

ولهذا لما أراد نبيُّنا صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام دخول مكة معتمرين، وتَعَذَّرَ الدخولُ عليهم؛ شَقَّ على بعضهم، حتى قال عمر رضي الله عنه: أليس قد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا نَدخُلُ البيتَ، ونَطُوفُ به، فَوَفَّقَ اللهُ عز وجل الصِدِّيقَ إلى التيقُّظِ لِمَعالم سُنَنِ اللهِ في خلقه، فقال رضي الله عنه:

إِنَّهُ لم يُخبر أَنَّا نفعل ذلك في سَنَتِنَا هَذِه، فَسَنَفْعَلُهُ فِي سَنَةٍ أُخرَى! تفسير الفخر الرازى (1/2824).

ولعلك أدركت الآن سِرَّ غضَبِ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا جاءه بعض أصحابه في مَطلع المِحنةِ المَكِيَّةِ، وقالوا: " أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ " صحيح البخاري، رقم الحديث: (3612)، (2/196) والحديث عن خبات بن الأرت رضي الله عنه، فراجعه بطوله؛ لغزير فوائده!

فإنه صلى الله عليه وسلم عَدَّ هذا خُروجًا جليًا على سنتي التدرج والابتلاء، قبل تمام نضوج الأمة المسلمة، ومن هنا عدَّ القرآنُ الصبرَ ضابطَ عدلٍ لكلتيهما، للوصول إلى مبتغانا بيقين، فجاء في بَيَانَيْنِ قُرآنيين كَسُنَّتَيْنِ جَارِيَتَين:

{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]

أخي: بِثَباتِ السنن الإلهية وعموميتها وتدرجها؛ يطمئن العبدُ المُوَحِّدُ إلى أن أفعاله سَتَؤُول إلى نتائجَ حَتْمِيَّةٍ، ومُخرَجاتٍ قَطعيةٍ؛ كَمَن تَصَدَّقَ؛ فَإِنَّ مَالًا مُضاعفًا سَيَأتيه، أَو عَفَا؛ فَإِنَّ عزةً سَتَعتَريه، أَو جَاهَدَ؛ فَإنَّ اللهَ تعالى سَيُحيِيه!

فَتَقَدَّم عَاملًا بِمُقتَضَى سُنَنِ ربنا، المَسطُورة فِي كتابنا، على أنَّها مُسَلَّمَاتٌ لا رَيْبَ فِي صِدقِهَا، وَلا شَكَّ فِي ثُبوتِهَا؛ لِتَكُون من أهل السَّعْدِ بها؛ وتهزم الشيطان الذي يقتنص ثغرةً يَريبُكَ منها!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين