حقيقة الدين الغائبة

 

 

كثير من الناس - ولا سيما الشباب - ليس على دراية ولا رواية للعلم الشريف وقد يجادل بعضهم بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير والقصور عندهم فى فهم الدين وحقيقته وكونه نظام حياة واضح جدا فى حوارهم مع بعضهم وكأن الدين فقط والفقه فقط فقه الحيض والنفاس والوضوء والاغتسال بينما الدّين لفظ مُشْتَرك[1] بَين مَعَاني كَثِيرَة مُخْتَلفَة. فمن معاني الدّين: 

الْعِبَادَة،الْجَزَاء،الطَّاعَة،الْحساب،السُّلْطَان،الْملَّة،الْوَرع،الْقَهْر،الْحَال، الْعُبُودِيَّة الْإِسْلَام وَبِمَعْنى مَا يتدين بِهِ الرجل قال ابن فارس الدَّالُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ أَصْلٌ وَاحِدٌ إِلَيْهِ يَرْجِعُ فُرُوعُهُ كُلُّهَا. وَهُوَ جِنْسٌ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَالذُّلِّ. فَالدِّينُ: الطَّاعَةُ، يُقَالُ دَانَ لَهُ يَدِينُ دِينًا، إِذَا أَصْحَبَ وَانْقَادَ وَطَاعَ. وَقَوْمٌ دِينٌ، أَيْ مُطِيعُونَ مُنْقَادُونَ.  وَالْمَدِينَةُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُقَامُ فِيهَا طَاعَةُ ذَوِي الْأَمْرِ"[2]  والقرآن الكريم وهو القاسم المشترك بين الجميع فضلا عن الأمة ينبذ هذا العوار بدليل آخر آية نزلت حيث قال فيها تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم ..." فكل مافى القرآن دين والأخذ به كله في حركة الحياة اليومية – على كافة المستويات تديُّن كامل وإلا فَإِذا ترك شَيْئا من هذا الْكَمَال فَهُوَ نَاقص[3]، ففِي هذه الْآيَة تَصْرِيح بإكمال الدّين، - والدين هنا شعب الإيمان التى تربو على السبعين - وَلَا يُمكن أن يحمل الدين هنا على التَّوْحِيد، لِأَنَّهُ كَانَ كَامِلا قبل نزُول هَذِه الْآيَة، وتصوّر إكمال الدين يَقْتَضِي تصوّرّ نقصانه[4]. وفى الأثر :"ليس يقوم بدين الله جل وعز إلا من حاطه من جميع جوانبه"[5] وفى رواية " وَإِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلا مَنْ أَحَاطَهُ اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ"[6] وفى تطبيق الحدود" ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله[7] " وفى النظام والتنظيم" ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك"[8] والعلم الموصول بالله دين فى الصحيح إن هذا العلم دين " [9] وجهاد الكفار والمنافقين والملحدين دين بدليل " جاهد الكفار والمنافقين ..." وفى صحيح الترغيب "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد " والتجارة دين " يقول عمر " لا يبع فى سوقنا إلا من قد تفقه فى الدين"[10]الاتفاقات الدولية من الدين " يوم الحدببية قال عمر فيم نعطي الدنية فى ديننا"[11] والفنون بضوابط من الدين " حتى تعلم اليهود والنصاري أن فى ديننا فسحة "[12] والأخلاق الحسنة دين " إن لكل دين خلقا وإن خلق الإسلام الحياء " [13]

انتشار التوحيد دين فى الصحيح: لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، يَقُولُ: " قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ[14]

 

رعاية حرمات الأشهر الحرم وسائر الحرمات المكانية والزمانية دين "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ"[15] تحكيم شريعة الله  وتعبيد الناس لله تعالى دين" إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"[16] مراعاة الفطرة ومسايرتها وعدم مصادمتها أو مصادرتها دين  "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"[17] اللجوء إلى الله تعالى والاعتصام به عند الشدائد وإخلاص الدعاء له دين " وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ"[18]

 

الاعتصام بحبل الله والتمسك بالأصول والثوابت وعدم  التفرق عنها دين "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ"[19]" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .."[20] "تصفية الإيمان من شوائب النفاق ونفايات الرياء دين جاء فى توبة المنافقين ".. إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ .."[21] التعلُّم ومعرفة أحكام الدين ولا سيما معالم الحلال والحرام في كافة مناشط الحياة من صلب وصميم الدين" فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"[22] الطاعة الدائمة لله تعالى امتثالا للأمر واجتنابا للنهي هي حقيقة الدين " وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا"[23]

 

وفى تفسير الطبري رحمه الله - وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}[24]  يَقُولُ: وَلَا يُطِيعُونَ اللَّهَ طَاعَةَ الْحَقِّ. .. طَاعَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَكُلُّ مُطِيعٍ مَلِكًا أَوْ ذَا سُلْطَانٍ، فَهُوَ دَائِنٌ لَهُ"[25] الجزاء على الأعمال  والمكافأة عليها دنيا وأخرى من متين الدين قال الجوهري "وَ (الدِّينُ) أَيْضًا الْجَزَاءُ وَالْمُكَافَأَةُ يُقَالُ: (دَانَهُ) يَدِينُهُ (دِينًا) أَيْ جَازَاهُ. يُقَالُ: كَمَا (تَدِينُ تُدَانُ) أَيْ كَمَا تُجَازِي تُجَازَى بِفِعْلِكَ وَبِحَسَبِ مَا عَمِلْتَ.: «إِنَّا لَمَدِينُونَ» أَيْ لَمَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ وَمِنْهُ (الدَّيَّانُ) فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى"[26] المنهاج هو : مجموعة أفكار أو مبادئ مرتبطة ومنظَّمة ، فمنهج الحياة ونموذج أو خطة السير إلى الله تعالى – بحق أو بباطل دين "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"[27] والدعاة إلى الدين الحق مكلفون بدعوة غيرهم إلى ترك الباطل الذي هم عليه واتباع الحق ، بلا مساومة ولا مداهنة ؛ فإن دعا أهل الباطل أهل الحق إلى اتباع باطلهم – كما وضحته سورة العنكبوت " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ*وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"[28] عندها تكون المفاصلة والمفارقة التى نصت عليها سورة الكافرون "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" أي لكم منهاجكم ولي منهاجي.[29]

 

كل ما يذهب إليه الإنسان ويعتقد أنه يقربه إلى الله فهو دين "وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ ..."[30]

 

«أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» المقصود بالدين هنا: الأعمال المائلة عن الباطل والتي لا حرج فيها ولا تضييق لأن الذي يتّصف بالعسر واليسر إنما هو الأعمال دون التصديق. فيأخذ من المسلم من الأعمال ما كان ميسورا وكان هو سمحا ] حتى يتمكن المتدين من الاستمرار والدوام على الأعمال الصالحة من سائر شعب الإيمان، وإلا انقطع وتوقف ، عن عمله كله أو بعضه ، عجزا أو مللا ، ولذا فى الصحيح «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، .."" عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأعْمَالِ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا"[31]. ويبعد أن  يكون المراد بالدين هنا الإيمان الذي هو بمعنى التصديق أو بمعنى الإسلام لأنه لَو تَركه لكفر[32]، فدلّ على أَن الْعَمَل الدَّائِم هُوَ الَّذِي يُطلق عَلَيْهِ أَنه أحبّ الدّين إِلَى الله عز وَجل، وَإِذا كَانَ هُوَ الدّين كَانَ هُوَ الْإِسْلَام لقَوْله: {إِن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام}[33]  .تمحيض النصح وإسداء المشورة العامة والخاصة فى كل ما يجلب نفعا أو يدفع ضرا أو يحي سنة أو يُميت بدعة ، أو ينشر فضيلة أو يحارب رذيلة ، أو يُؤلف ويُقرِّب بين قلبين متباعدين أو يُصلح بين متفاسدين  كل ذلك من عتيق الدين " " الدِّينُ النَّصِيحَةُ " قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: " لِلهِ وَلِكِتابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِم "[34]. من لم يفهم شمول الدين لكل شؤو الحياة فليراجع فهمه لهذا الدين

 

وكل كسر فإِن الله يَجبرهُ ... وما لكسر قناة الدين جُبْرانُ

 

 

[1] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1/ 255)

[2] مقاييس اللغة (2/ 319)

[3] المتواري على أبواب البخاري (ص: 52)

[4] المتواري على أبواب البخاري (ص: 53) بتصرف يسير

[5] الفاخر (ص: 239)

[6] الثقات لابن حبان (1/ 88)

[7] النور:2

[8] يوسف : 76

[9] صحيح مسلم

[10] صحيح وضعيف سنن الترمذي (1/ 487، بترقيم الشاملة آليا)

[11] صحيح مسلم

[12] سلسلة الأحاديث الصحيحة

[13] سنن ابن ماجه كِتَابُ الزُّهْدِ بَابُ الْحَيَاءِ

[14] البخاري في "التاريخ" 2/150

[15] التوبة : 36

[16] يوسف: (40)

[17] الروم : (30)

[18] لقمان:32

[19] الشورى:13

[20] الأنعام: (159)

[21] النساء : 145+146

[22] التوبة : (122)

[23] النحل : 52

[24] [التوبة: 29]

[25] تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (11/ 406)

[26] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (5/ 2118)

[27] الكافرون (6)

[28] العنكبوت: 12+ (13)

[29] القطوف من لغة القرآن : 340

[30] التوبة: (99)

[31] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (7/ 209)

[32] المتواري على أبواب البخاري (ص: 52)

[33] [آل عمرَان: 19]

[34] إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم  كتاب الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين