حقيقةُ الانقلاب ! أنْطَقَنِي اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ


 
 بقلم : د . موسى علي موسى
 
***
منذُ حلَّت " نكْسةُ يونيو" الجديدة همَمْتُ وعزْمْتُ أنْ أصمت وأكفَّ عن الكلام لعدة أسباب منها : لأتبين الأمور ، ولأرى المتحولين مرة أخرى هؤلاء الذين حازوا أعلى الدرجات في سرعة التحول ، وحققوا أرقاما قياسية في دجلهم ونفاقهم وازدواجيتهم التي فاقتْ أيَّ حد وأي منطق وأي عقل ، لكنَّهُ الرانُ الذي أخبرنا به ربُّ العالمين ( كلا بل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [ سورة المطففين : 14] ولأرى من سيثبتُ على الحق الذي اعتقده واقتنع به ، واختار على أساسه ، ومن سينقلبُ عندما تلوحُ له الشُّبهات أو تغرُّه وتلعبُ به الشَّهوات . وشجعني على الصمت أنَّ الكلَّ قد تكلم بحق وعلم ويقين أو بباطل وهوى وجهل وقد قال من شاء ما شاء ، ورأيتُ وسمعت ، وصُدِمْتُ وتعجبتُ .
 
 وبعد أنْ سكتُّ شيئا قليلا أنطقني اللهُ الذي أنطق كل شيء ، وأنطقني جلالُ آيات الله تعالى التي لجأتُ إلى ظلالِها أتفيؤُه ، ومن نورِها أستضيءُ في ظلمات الفتن التي تحيطُ بنا ، وليطمئن قلبي بذكر ربي ، وبكلماته التي يحقُّ بها الحقَّ ، ويُبطلُ الباطل ، فأقول- لله وللحق وللتاريخ وللحظة الفارقة- : أقف معكم أيها الكرام وقفة تدبر وتأمل لحديث القرآن الكريم عن الانقلاب والمنقلبين ، وسأتناول أربع آيات بترتيبها في القرآن الكريم ؛ ليبين لنا سرٌّ من أسراره ، وجانبٌ من إعجازه ، فسبحان منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب !
 
(1 ) قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [ سورة البقرة : 143]
وأدهشني أنَّ أول موضع يتحدث عن الانقلاب والمنقلبين فيه إشارة وإعجاز ، أما الإشارة فإلى دور الأمة ومكانتها ودورها بين الأمم وكيفية القيام به ، وأما الإعجاز فإن هذه الآية رقمها ( 143 ) من سورة البقرة التي هي أكبر سورة في القرآن الكريم وعدد آياتها ( 286 ) أي في وسطها وهي تتحدث عن الوسطية.
 
فلما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله ، وتجريدها من التعلق بغيره ، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة ، فقد نزعهم نزعا من الاتجاه إلى البيت الحرام ، واختار لهم الاتجاه - فترة - إلى المسجد الأقصى ، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية ، ومن كل ما كانت تتعلق به في الجاهلية ، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مجردا من كل إيحاء آخر ، اتباع الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة ، ممن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ ، أو تتلبس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير أي تلبس من قريب أو من بعيد .
( 2 ) قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) [ آل عمران : 144 ] وهذا الآية تتحدث عن أكبر مصيبة ابُتلي بها المسلمون وهي ما أُشيع عن موت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ، وما كان من آثار ذلك على أصحابه ، فنزلت لتعلم المسلمين الأولين والآخرين أن محمدا رسول من عند الله جاء ليبلغ كلمة الله ، والله باق لا يموت وكلمته باقية لا تموت ، وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل ، وهذه حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول ، وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة! { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا } فإنما هو الخاسر الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق ، وانقلابه لن يضر الله شيئا ، فالله غني عن الناس وعن إيمانهم ، ولكنه - رحمة منه بالعباد - شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ولخيرهم هم ، وما ينقلبُ عنه منقلِبٌ إلا سيلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمنْ حوله ، وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق وتعوج الأمور كلها ، ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة وتستقيم في ظله النفوس وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها والسلام مع الكون الذي تعيش فيه .
 
( 3 ) قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) [الحج : 11]
فالعقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن ، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة وتتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع .
فمن ينقلب على هذه العقيدة ، ولا يكون متمكنا منها ، ولا مثبتا في العبادة ، فينقلب على وجهه عند مس الفتنة ، ووقفته المتأرجحة ( على حرف ) تمهدُ من قبل لهذا الانقلاب!
 
( خسر الدنيا والآخرة ) خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه ، ولم يتماسك له ، ولم يرجع إلى الله فيه ، وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه ، وانكفائه عن عقيدته ، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرا له { ذلك هو الخسران المبين } يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى ، إلى جوار خسارة المال أو الولد ، أو الصحة ، أو أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها عباده ، ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان . فيا له من خسران!
 
( 4 ) قوله تعالى : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) [الشعراء : 227] وفيها بشارة بنهاية الظالمين وأثر ظلمهم وانقلابهم ، فما أروع آيات الله تعالى وكأنها تنزل الآن !
 
بعد " نكسة يونيو" الجديدة عادتْ حملاتُ الكذب والإرجاف والتعويق والتثبيط لهمم الناس، بنفس الغباء فقد ختم الله على قلوبهم وأبصارهم وعقولهم ، وبدأتُ أسمع من بعض الطيبين ، أن الحل في الرضا بالأمر الواقع واستقالة الرئيس الشرعي المنتخب وترك الساحة لمن أفسدوا وأجرموا واستكبروا في الأرض بغير الحق ، وهذا ما يريدون كما حاولوا وفشلوا في يناير التي نسوها الآن وبدأوا في بدعتهم الجديدة " ثورة يونيو " في كل قنواتهم الدجَّالة ، فاحذروا من التثبيط والمعوقين والمرجفين يرحمكم الله!
 
أيها السادة الكرام ، إنما هو حلٌّ واحدٌ في نظري : لا تراجع أبدا ولا استسلام عن حماية الحق والشرعية ومكتسبات الناس التي ضاعت عقودا من الزمن ، وإلا سيكون العقاب الإلهي شديدا ، وقد يجعلُه على أيدي جلادينا ممن استكبروا في الأرض بغير الحق ، لابد من استرداد الثورة الحقيقية على الظلم والاستخفاف بحقوق العباد والبلاد فلا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، واحشدوا واصبروا إن وعد الله حق ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون ، وانظروا إلى الأطفال الذين لن يرحموا من رضي بالذل وورثه لهم .
 
وأخيرا : أعلمُ أن الله سبحانه على كل شيء قدير وأنه سبحانه قد أحاط بكل شيء علما ، ولذلك أرى والله تعالى أعلى وأعلم أن الله أراد بمصر وأهلها خيرا ، وشيئا هو أعلم به منا، ونحن منتظرون تنفيذ إرادته إن شاء الله - بأيدينا أو بقدرته القاهرة ، فانتظروا إنا منتظرون، واعملوا إنا عاملون ، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
بُشرى : آخر ما استمعتُ إليه قبل الانتهاء من هذا المقال آيات كريمة بصوت القارئ الشيخ أبي العينين شعيشع رحمه الله بدأها - والله - بقوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) [القصص : 5]
وآخر ما استمعت إليه - والله - قوله تعالى : (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) [القصص : 7] وبعد انتهاء القراءة سمعت المؤذن يقول : الله أكبر الله أكبر ، مناديا لصلاة المغرب !!!!!!!!
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين