حقوق الجار

أذيعت صباح السبت 19 من صفر 1377.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فحديثي إليك اليوم عن: حقوق الجار ووجوب العناية به والرعاية له.

من المقرر في علم الاجتماع أن الإنسان مدني بطبعه، لا يمكنه أن يعيش منفرداً، فهو في طبيعته مفتقر إلى معاشرة الناس ومصاحبتهم ومساكنتهم والتعامل معهم والعيش بينهم، وإنَّ بين الإنسان وأخيه الإنسان حقوقاً متبادلة، وواجبات متعارفة، يجب عليه أن يؤديها ويقوم بمراعاتها، ليتسنى له مجتمعٌ صالحٌ يحيى فيه حياة طبيعية هادئة مستقرة.

وإنَّ الإسلام الحنيف قد أوصى بأداء الحقوق كلها اجتماعية كانت أو مادية أو مدنية أو أدبية أو غير ذلك، ودعا الإسلام إلى أداء هذه الحقوق بمختلِفِ الأسـاليب والمناسـبات: تـرغيبـاً وتـرهيباً، ووعظاً وقصصاً، وحضَّاً وإلزاماً.

ومن أبرز تلك الحقوق التي طالب بها الإسلام وندب إليها: حقُّ الجار والوصاية به. ونظرة الإسلام إلى الجار نظرة اجتماعية شاملة، فهو يعتبر الجار كُلَّ من سكن بجوارك من الناس مسلماً كان أو غير مسلم، ويُثْبِتُ لهذا الجار أيَّاً كانَ حقوقاً يلزَمُكَ أداؤها والنهوضُ بها على أفضل وجه.

ولقد بلغ من عناية الإسلام بالجار أن عدَّه في رتبة الوالدين والأقارب، وجعلَ حقَّه قرينَ حقِّ الله تعالى بالعبادة والتوحيد، فكما أوصى الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وأمر بالإحسان إلى الوالدين والأقارب والضعفاء، أوصى بالجار خيراً وإحساناً فقال سبحانه: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورا﴾، والجارُ ذو القُربى: هو الجار الذي يكون جارك وقريبك، والجارُ الجُنُب: هو الجار الذي يكون جارك، ولكنه أجنبي عنك، أي ليس بينك وبينه قرابة أو نسبة، وإنما بينكما جوار فقط.

وحقوق الجار لا تقتصر على الجار الملاصق المتاخم، بل تمتد إلى الجار البعيد الذي يكون في حيّك أو سوقك، فهو في عُرْفِ اللغة والشارع جار، حتى قال الإمام الحسن البصري والإمام الأوزاعي في حدود الجوار: هي أربعون داراً من كل ناحية من النواحي الأربعة التي تسكنها.

هذا، وإذا كنا رأينا الآيات الكريمة قد جعلت حقَّ الجار عديلَ حقِّ الله تعالى في العبادة، فقد جاء في الحديث الشريف ما يفيد أن الجار بموضعِ أن يرث من جاره بحق الجوار بينهما، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليها وسلم قال: مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِّثُه. وما هذه الوَصاة إلا لبيان ضخامة حق الجار حتى أنه لجدير أن يكون الجوار بينكما سبباً من أسباب الميراث.

ولم يكتف الإسلام بهذا النوع من البيان لهذا الحق الجليل، بل جعل إكرام الجار وحسن معاملته وبسط البر له من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر، روى مسلم عن أبي شُرَيح الخُزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحْسِن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرِمْ ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُلْ خيراً أو ليسكت.

ويُفهَمُ من هذا الحديث الشريف أن أذى الجار وسوءَ معاملته مما ينافي الإيمان ويباعده كل المباعدة، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث آخر أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات على نفي إيمان من خاف جارُه من أذاه، وبيَّن أنه لا يدخل الجنة، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله لا يؤمِنْ، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقَه. أي شروره ومساوئه، وفي رواية ثانية لمسلم: لا يدخل الجنة من لا يأمن جارُه بوائقه. وناهيك من الحق العظيم الذي أقسم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات من أجل بيان عظمته وجسامته.

وقد روى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله: فلانةٌ تصوم النهار وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها؟ قال: هي في النار. قالوا: يا رسول الله فلانةٌ: تصلي المكتوبات، وتتصدق، ولا تؤذي جيرانها؟ قال: هي في الجنة.

ولا يصح أن نفهم أن هذا الوعيد الشديد قاصرٌ على أذى الجار والإساءة إليه، بل يتناول كل من استطاع أن يسد عَوَز جاره ولم يفعل، فقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما آمن بي من بات شبعان وجارُه إلى جنبه جائع وهو يعلم. وكان لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه جارٌ يهودي، فذُبِحَتْ شاةٌ لابن عمرو في غيبته عن البيت، فلما جاء قال: أهديتُم لجارنا اليهودي؟ أهديتُم لجارنا اليهودي؟ أَهديتُم لجارنا اليهودي؟ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِّثُه.

فهذه النصوص الكثيرة الصحيحة تفيد إفادة قاطعة أن حق الجار حق عظيم ثقيل، وأن التقصير فيه تقصير يستوجب العقاب بالنار وحرمان دخول الجنة، ولذا عدَّ العلماء التفريط في حقوق الجار من كبائر الذنوب، وما ذلك إلا لأن حياة الإنسان ترتكز على ائتمانه لجاره، سواء في ذلك جار المسكن أو جار المتجر والعمل، فالإنسان لا قرار له ولا سكينة لديه إذا لم يكن له من جاره أمان واطمئنان ومحاسنة ومودة، ولهذا جاء عن رسول الله على الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المُقامة، فإنَّ جار البادية يتحول.

وإن أذى الجار يدخل فيه أشياء كثيرة من أدناها إلقاء الأوساخ أمام داره، ومن أشدِّها عنتاً ما يلاقيه كثير من الناس اليوم، وذلك أنْ يكون لدى جاره مذياع فيطلق له العنان، ويدعَهُ يزعج جاره في ليل أو نهار، وقد يكونُ لدى جاره مريض أو مسافر أو ضيف، أو يكون الوقت وقت نوم في النهار أو في الليل، أو يكونُ في بيت جاره طالب يكدح في دراسته وتحصيله ويذيب مخه وجسمه للحصول على العلم، فيقوم مذياع الجار الغافل المتطرب، أو مذياع الجار الذي يجعل من مذياعه إعلاناً عن دكانه وحانوته، يقوم هذا المذياع بالإزعاج الكامل لهذا الطالب المنكوب ولهؤلاء الضعفاء والمفتقرين إلى الراحة والهدوء.

ألا أيها الغافلون، اتقوا الله في أنفسكم وفي جواركم، واعلموا أن أذى الجار مدعاةٌ لسَخَطِ الله وعقابه وسببٌ لحرمان الجنة ونعيمها، واعلموا أن حقوق الجار من حقوق الله سبحانه، وجملة حقوقه عليك أيها الإنسان أنه إذا استعانك جارُك أعَنْتَه، وإذا استقرضك أقرضتَه، وإذا احتاجك أعطيته، وإذا مرض عُدْتَه، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتَّبَعْتَ جنازته، ولا تستَطِلْ عليه بالبنيان تُشرِف عليه فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار ريح قِدْرِكَ إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأَهْدِ له، فإن لم تفعل فأدخِلها سراً، ولا يخرج ولدُك بها ليغيظ بها ولده، وإذا رأيتَه على معروف شكرته، وإذا رأيتَه على منكر نبهته ونصحته، وإن وقع منه الخطأ عليك تحملته وجاملته، وإن كان جاهلاً علَّمته وذكَّرته. فبهذا وأمثاله من حسن المعاملة للجار تكسب من الله الرضوان والأجر ومن الناس حسن الذكر، وتُقَدِّم إلى نفسك وجارك الخير والإحسان، وتكون في عداد الذين هم محسنون.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين