حقائق تربويّة ومبادئ يغفل عنها كثير من المربّين

حقائق تربويّة ومبادئ يغفل عنها كثير من المربّين

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

د. عبد المجيد أسعد البيانوني

 

ليس من حكمة المربّي وحنكته أن يكون قاضياً في محكمة أو آمراً عسكريّاً، يجيد إلقاء الأوامر، ويتقن الصرامة والعبوسة.. وإلاّ فإنّه ليس بمربّ، ولا تعرف التربية إلى نفسه سبيلاً..

فلابدّ للمربّي أن يكون ذا بصيرة واعية نافذة، وحكمة بالغة، وتقدير دقيق للعواقب، وخبرة بالحياة واسعة.. وقبل ذلك كلّه لابدّ أن يكون ذا موهبة من الله تعالى، تمنحه التوفيق والسداد، وتمدّه بالحكمة في كلّ موقف..

وعندما تتحقّق في المربّي هذه الصفات فإنّه يلهم الحكمة في التربية، وأنواعاً من الأساليب المتميّزة، والمبادئ التربويّة الدقيقة، التي لا يجدها الناس في الكتب، ولا يتعلّمونها في مدرسة أو جامعة.. إنّه بعبارة موجزة: يكون مربّياً مبدعاً، بكلّ ما تحويه هذه الكلمة من شروط وحقائق، وما تلمح إليه من آثار ونتائج..

وقد رأينا في الشيخ رحمه الله ذلك كلّه، لا أبالغ في ذلك ولا أتزيّد.. ولا أدلّ على ما أقول من هذا النجاح الكبير الذي كتبه الله له على مستوى أسرته، التي كانت مضرب المثل بين الناس، وعلى مستوى طلاّبه، وعلى مستوى إخوانه وتلامذته ومحبّيه..

ولعلّ من أهمّ الحقائق والمبادئ التربويّة التي يغفل عنها كثير من المربّين هذه المبادئ التي كان الشيخ يؤكّد عليها في مناسبات مختلفة:

أ ـ الترغيب قبل الترهيب، والتحبيب بالعمل، والتشجيع عليه والتحفيز.

ب ـ التدرّج في التربية ومراعاة طاقة الناشئ وقدراته.

ج ـ تهيئة المناخ التربويّ المناسب لما يكلّف به الناشئ.

د ـ المتابعة التربويّة الحكيمة مع التوجيه ودقّة الملاحظة. 

هـ ـ وفي نطاق الأسرة: التعاون الوثيق بين الزوجين.

 

ولا يسعنا أن نفصّل القول في كلّ نقطة من هذه النقاط الجامعة، فذلك يخرج بنا عن طبيعة هذه الرسالة، ولكنّنا نقف عند كلّ واحدة منها وقفة يسيرة.

أ ـ الترغيب قبل الترهيب، والتحبيب بالعمل، والتشجيع عليه والتحفيز.

ولعلّ من سمع عن عزيمة الشيخ في منهجه، وحرصه على الجدّيّة في دعوته، يخيّل إليه أنّ أسلوب الترغيب والتحبيب، لم يكن وارداً في منهجه وحياته، ولكنّ الواقع يؤكّد لنا بكلّ وضوح دقّة ما نقول ومصداقيّته، فقد قام منهجه على الترغيب والتحبيب والتشجيع، لأنّه كان يعلم أنّ هذا هو المنهج النبويّ أوّلاً، وأنّه هو المنهج المؤثّر الفاعل في نفس الإنسان أبلغ التأثير والفاعليّة، وأنّ ما غرس في حياة الإنسان عن طريق الترغيب والتحبيب والتشجيع، يرجى له الرسوخ والثبات، لأنّه يقترن برغبة النفس وطواعيتها..

وأما ما كان عن طريق الترهيب والشدّة والإلزام؛ فلن يكتب له الدوام والاستمرار عند أوّل شعور بالحرّيّة.. لأنّه لا يكون نابعاً من نفس الإنسان، ويحسّ أنّه ملزم به من قوّة خارجة عنه..

كان يشكو للشيخ بعض تلامذته ومحبّيه أنّ زوجته لا تستجيب له في الالتزام بالمنهج الإسلاميّ في حياتها، فيسأله الشيخ: وماذا فعلت لتحقيق ذلك.؟ فيقول للشيخ: لقد نصحتها كثيراً، وذكّرتها، ووعظتها، وهدّدتها.. فيقول له الشيخ: ثمّ ماذا فعلت.؟ فيقول: وماذا أفعل بعد ذلك.؟ فيقول له الشيخ: هل قلت لها: سأهديك قطعةً من الذهب بقيمة كذا وكذا، إذا التزمت بما أريده منك.؟! وهل يمكنها ألاّ تستجيب لك بعد ذلك.؟! إنّنا إذا أردنا أن ننصر ديننا بصدق، فلنبذل دنيانا في سبيله..

وممّا سمعته منه مرّات كثيرة، وفي مناسبات مختلفة، قوله رحمه الله: "المؤمن الحقّ يبذل دنياه لنصرة دينه".

ومن هنا فقد كان الشيخ يوسّع على أسرته في المباح من الدنيا، ويقدّم لهم ما يرغبون، لتنشط عزائمهم على التمسّك بالدين، والالتزام بفضائله وآدابه، ويدعو إخوانه إلى الأخذ بهذا الأسلوب المؤثّر في الدعوة..

ب ـ التدرّج في التربية ومراعاة طاقة الناشئ وقدراته.

والتدرّج في التربية ومراعاة طاقة الناشئ وقدراته كان يوليه الشيخ أهمّيّة كبيرة، فإنّ المنبتّ لا ارضاً قطع، ولا ظهراً أبقى [كما جاء في الحديث الذي يرويه البزّار عن جابر رضي الله عنه، وأوّله: ( إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإنّ المنبتّ.. ) انظر كشف الخفاء 1/300/]، ومن رحمة الله بعباده أنّ كلّفنا من العمل ما نطيق، ولم يكلّف نفساً إلاّ وسعها، وأمرنا أن نتّقي الله ما استطعنا.. وكلّ ذلك ممّا يقتضي التدرّج في التربية مراعاةً لطاقة الناشئ وقدراته.

وكان التدرّج في التربية منهجاً للشيخ لا يقبل التساهل به أو إغفاله، وينصح إخوانه دائماً بالأخذ به وتحكيمه في حياتهم.. والأمثلة على ذلك من حياته كثيرة..

يقول في مجالس: " تذكير وتحذير ":

" يسْتطيعُ الإنسان أن يتحلّى بالإيثار بحمل النفس عليه على التدريج، فيؤثر غيره باليسير من المال، وباليسير من الطعام، وبما يشتهي من الفاكهة، وبالليّن من الفراش، وبالبارد من الماء، وبالراحة من عناء الخدمة ".

ومع شدّة حرصه رحمه الله على نوافل العبادة، وتأكيده بوجه خاصّ على صلاة التهجّد، فقد بلغه عن بعض أصهاره أنّه يرغّب زوجته أن تقوم ساعات طويلة من الليل، ويحثّها على ذلك، فنهاه، وبيّن له أنّ النساء لا يُطِقن طُولَ القيام بالليل مع مسئوليّاتهنّ بالنهار في رعاية الأولاد، والقيام على شئون البيت، وقليل دائم خير من كثير منقطع..

وكان يرى رحمه الله أنّ المبالغة في العبادة، وشدّة الانصراف إليها، أخطر على الشابّ الناشئ من التقصير أو التقاعس، فالتقصير والتقاعس دواؤه الحثّ والترغيب، واستنهاض الهمّة، وشحذ العزيمة، أمّا المبالغة في العبادة فهي مدخل خطير إلى العجب بالعمل والغرور، وهما من مفسدات الأعمال، وتحمل في طيّاتها كثيراً من الأدواء الخطيرة، وكثير من المنصرفين إلى كثرة النوافل قد يلعب بهم الشيطان من حيث لا يشعرون، ثمّ يصدّهم عن سبيل الله وصراطه المستقيم.. وقد رأينا على ذلك نماذج من الناس، نسأل الله تعالى الثبات على الحقّ بمنّه وكرمه..

وكان إذا بلغه عن بعض إخوانه شيء من ذلك دعاه إليه، وكلّمه بنفسه، وحثّه على الاعتدال والترفّق بنفسه، فإن استجاب إلى ذلك طوعاً فبها، وإلاّ فإنّه يلزمه بما يناسب حاله، ويكلّفه ألاّ يزيد على ذلك شيئاً إلاّ بعلمه..

ج ـ تهيئة المناخ التربويّ المناسب لما يكلّف به الناشئ.

فالمربّي الحكيم عندما يريد أن يأمر بشيء يُهيّئ الأسباب التي تعين على تنفيذ ما يأمر به والتزامه، ويذلّل ما استطاع من العقبات من طريق الناشئ، ليقبل الناشئ برغبة ومحبّة، وعندما يرى الناشئ أنّ من يربّيه يعينه بهذه الصورة، ويتعاون معه لتحقيق المطلوب، فإنّه يتجاوب مع مربّيه ولاشكّ، وينشط للعمل ويستجيب..

كان الشيخ يوقظ أولاده قبيل الفجر بمدّة مناسبة لصلاة التهجّد، وفي ليالي الشتاء الشديدة في مدينة حلب، تنزل درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر.. فكيلا يتذمّر الأبناء من شدّة البرد ولسعته، ولا يجدوا هذا الاستيقاظ ثقيلاً مكروهاً، فقد كان الشيخ يستيقظ قبلهم بمدّة، ويوقد لهم النار تحت خزّان الحمام، ليتوَضّأوا بماء ساخن، ولا تؤذيهم شدّة البرد، فما أروع هذه الشفقة والرحمة ! وما أجمل هذه الصورة من الرفق، التي لا نتصوّر ناشئاً لو عومل بمثلها أن يتمرّد على طاعة مربّيه أو لا يستجيب..

د ـ المتابعة التربويّة الحكيمة مع التوجيه ودقّة الملاحظة. 

الترغيب والترهيب، والتدرّج في التربية، وتهيئة المناخ التربويّ المناسب ومراعاة طاقة الناشئ وقدراته.. شروط لابدّ منها لنجاح المربّي في تربيته، ولكنّ الأهمّ من ذلك كلّه أن تكون لدى المربّي روح المتابعة التربويّة الحكيمة، فلا يقف عند إلقاء الأمر، وكأنّه يلقي عن كاهله عبئاً ثقيلاً، أو تكليفاً مزعجاً.. ثمّ يمضي، ولكنّه يتمتّع بروح المتابعة الحكيمة الدائبة، الصبورة ذات النفس الطويل، التي تلاحظ، وتتابع أحوال الناشئ وتطوّراته، وتحوطه بنباهتها وتوجيهها، حتّى تبلغ التربية غايتها، وتعطي الجهود أكلها..

وقد كان الشيخ على مثل هذه الروح من المتابعة الحكيمة الدائبة، بصورة فريدة نادرة، إذ كان لا يقوم بهذا الأمر نصّ مسئوليّةً وتكليفاً، وإنّما يجد فيه لذّته التربويّة، وهو يتعهّد الناشئ سواء أكان ولده، أو طالبه في المدرسة، أو تلميذه في المسجد، كما كان يرى في ذلك مسئوليّة كبيرةً لا يسع المؤمن أن يفرّط بها، وكان يستشعر مسئوليّته الكبيرة عن كلّ من يتّصل به بنسب أو سبب..

أذكر أنّني رأيته مرّة في مجلسه في المسجد، وعنده بعض أحفاده صغيراً يدرج.. فنظر إليه الشيخ وخنقته العبرة، ولحظت ذلك على وجهه فقال لي: إنّها لمسئوليّة عظيمة.! لم ننته من مسئوليّة الأولاد حتّى جاءنا الأحفاد.! فقلت له: ولكنّكم يا سيّدي لا تسألون عن أحفادكم.! فقال لي: كيف لا أسأل عنهم، وأنا أستطيع توجيههم ورعايتهم.؟!

فينبغي على المربّي الحكيم: أن يحوط الناشئ بعنايته الرفيقة ورعايته، وتوجيهه وإرشاده، لأنّه أشبه بالنبتة الغضّة الطريّة، التي قد تقتلها لفحة حرّ، أو هبّة ريح، أو دعسة طفل صغير.. فإذا ضربت جذورها في الأرض، وقوي ساقها لم تعد تبالي بشيء من تلك العوادي..

هـ ـ ومن أهمّ الحقائق التربويّة والمبادئ في نطاق الأسرة: التعاون الوثيق بين الزوجين.

إنّ الأسرة في الإسلام هي الخليّة الحيّة، التي يتكوّن منها المجتمع، والقاعدة الأولى التي يقوم عليها، ومن ثمّ فقد أولاها الإسلام عناية كبرى، بما أقامها عليه من أسس ومبادئ، وما حاطها به من رعاية تامّة، وآداب سامية..

وقد نظّم الإسلام العلاقة بين الزوجين لتحقيق تلك المقاصد العليا، والأهداف الساميّة، فوزّع المسئوليّات بين الزوجين، ومن بعدُ الوالدين، ليقوم كلّ منهما بدوره المحدّد المرسوم، فلا تختلّ العلاقات ولا تضطرب، ولا تضيع المسئوليّات ولا تتميّع، فكانت الأسرة في المجتمع المسلم هي منشأ الطفولة، ومحضن الإنسانيّة، وحصن الفطرة السويّة..

والتفاهم على منهج التربية الصالحة، وما يتّخذه الوالدان من أساليب ووسائل، وما تتطلّبه منهما مصلحة التربية من توزيع بينهما للمسئوليّات والمهامّ، كلّ ذلك من أهمّ أسرار النشأة السويّة، والنجاح التربويّ، وذلك كيلا يتناقض توجيه الوالدين ولا يتعارض، فيقع الناشئ في الحيرة والاضطراب، وقد يستغلّ ذلك فيهما، لينفذ إلى مآربه وأهوائه، فتسوء نشأته، وتختلّ تربيته..

وأكثر أسباب فساد تربية الأولاد فقد التفاهم بين الزوجين على أصول التربية ومنهجها، وأساليبها ووسائلها.. ممّا يترتّب عليه تفكّك الأسرة، واضطراب نشأة الأولاد..

والأسوأ من ذلك كلّه: أن يلاحظ الأولاد فقد الاحترام بين الأبوين بما يعلنه أحدهما من انتقاد الآخر أمام الأبناء، أو ما يتلفّظ به من كلمات، فيها إساءة للطرف الآخر، وجرح للمشاعر وسباب، وكثير من الناس لا يبالون بذلك، ولا يعيرونه انتباههم واهتمامهم، ولكنّ آثاره النفسيّة والسلوكيّة على الأبناء والبنات خطيرة مدمّرة..

فكان حقّاً لازماً على كلا الزوجين ـ والزوج بالدرجة الأولى، وبوجه أخصّ ـ أن يحكما هذه الخطوة من أوّل الطريق في بناء الأسرة وتكوينها..

وقد كان هذا الأمر للشيخ في حياته الزوجيّة على أكمل ما أراد وأتمّه، فقد استجابت زوجته لمنهجه أحسن استجابة، وكانت خير عون له في كلّ شيء، فانعكس ذلك على الحياة السويّة لأبنائه، وتمتّعوا بالنشأة الطيّبة، والترابط الأسريّ الذي قلّ نظيره في الناس..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين