حسن البنا متصوفا

حسن البنّا مُتصوِّفًا (1)

الدكتور محمد فتحي عثمان (2)

 

لو لم يتَّجه حسن البنا رحمه الله تعالى إلى إنشاء حركة الإخوان المسلمين في مصر التي امتدَّت منها إلى غيرها من البلاد فروعًا أو تأثيرًا، لكان «شيخًا» من شيوخ الصوفيَّة الذين يستحقُّون هذه «المشيخة» والذين يتزاحم عليهم المُريدون.

فعلى الرغم من أنَّه استهلَّ دعوته وهو ابن الثانية والعشرين، ولقي الله شهيدًا وهو في الثالثة والأربعين إلَّا أنَّه كان مكتهلًا في شبابه، سمْتُه الوقار في غير عبوس، والجدُّ في غير تجهُّم، والسكينة في غير تراخٍ.

وكان رحمه الله تعالى حلوَ الدعابة، بشوشَ المحيَّا، باسمَ الثَّغر، لكنه لا ينغمس في قهقهة ولا يصخب ولا يضج ولا يهزل، يَجْتذب الشباب إليه بعذوبة حديثه وإقباله على مُحدِّثه، وبوضوح أفكاره، وسلامة تعبيره وتبسطه «وقفشاته»، لكنَّه لا يتبذَّل وإنَّما يظلُّ دائمًا السهل الممتنع، فيه جاذبيَّة الشخصيَّة القوية العملاقة التي ترفع من تجتذبه إلى عليائها.

وحسبك أن تقرأ وصاياه العشر التي خرجت عنه في صدر دعوته لتعرف نمط شخصيَّته ونهجه في التربية والصورة التي يودُّ أن يكون عليها إخوانه وأبناؤه.

وممَّا جاء فيها:

«قُم إلى الصَّلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف.

اتْل القرآن أو طالع أو استمع أو اذكر الله تعالى ولا تصرف جزءًا من وقتك في غير فائدة.

لا تكثر الجدل في أيِّ شأن؛ فإنَّ المِراء لا يأتي بخير.

لا تكثر الضحك فإنَّ القلب الموصول بالله ساكنٌ وقور.

لا ترفع صوتك أكثر ممَّا يحتاج إليه السامع فإنَّه رعونة وايذاء.

تَجنَّب غيبة الأشخاص، وتجريح الهيئات، ولا تتكلم إلا بخير.

الواجبات أكثر من الأوقات فعاون غيرك على الانتفاع بوقته.

وهذه الوصايا لا تصدر إلا من «شيخ» تسنَّم «المشيخة» بحق، ولا غرو أن يتتابع عليه المريدون الذين أعطوه قلوبهم قبل أن يمدُّوا إليه أيديهم.

ومعروف أنَّ حسن البنا قد تأثَّر في نشأته في قريته من أعمال البحيرة بالتربية الصوفية، فاتَّصل بالطريقة الحصافية، وكان والده الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا قد علَّق على «وظيفة» الأدعية اليوميَّة لأذكار هذه الطريقة ببيان أدلتها من الأحاديث الصحيحة، وكانت هذه الوظيفة تجمع آياتٍ من الكتاب الكريم، وأحاديث من أدعية الصباح والمساء التي وردت في كتب السنَّة، «ليس فيها شيء من الألفاظ الأعجميَّة، أو التراكيب الفلسفيَّة، أو العبارات التي هي إلى الشطحات أقرب منها إلى الدعوات» - كما يقول حسن البنا في مذكَّراته، ويبرز تعليقه المُوجَز هذا رأيه في التصوُّف وما يقبله منه وما يرفضه.

فهو يقبل ما استند إلى الكتاب والسنَّة، ويرفض ما تأثَّر بالنزعات الوافدة من معتقدات الأعجميَّة من هندوكيَّة وبوذيَّة ومانوية، أو تأثَّر بالمذاهب الفلسفية الإغريقية من أفلوطينيَّة وغيرها، ويرفض شطحات الاتِّحاد والحلول التي رُويت عن الحلاج أو وردت في كتابات ابن عربي.

فهل رأيت معيارًا أجمع وأضبط وأبدع من هذا المعيار الشامل الذي انتظمته قرابة خمس عشرة كلمة لا غير؟

وتعزِّز كتابات حسن البنا رحمه الله تعالى المبكِّرة هذا الرأي الذي أبداه فيما يُقبل من التصوف وما يُرفض؛ فله مقال في «جريدة الإخوان المسلمين» الأسبوعية التي صدرت في الثلاثينيَّات.

 

وقد ذكر مقال حسن البنا عن التصوف أنه قد يكون على واحدة من ثلاث صور:

صورة منها مرفوضة تمامًا، وصورة مشوبة مدخولة، وصورة باقية وحيدة هي المقبولة.

فالصورة «الفلسفيَّة»، للتصوف وما شابها من أفكار «المراتب» التي تصل إلى «الاتحاد» و«الحلول»، مرفوضة تمامًا.

والصورة «التنظيميَّة» للتصوف وما فيها من خضوع وتبعيَّة وانحراف، مشوبة مدخولة.

أمَّا الصورة «التربويَّة» التي تُعنى بتذكر المؤمن لربه وآخرته وهو يعمل في دنياه ويتعامل مع الناس فهي الصورة الوحيدة المقبولة عند حسن البنا، على أن تحرص التربية الصوفيَّة على الالتزام بالكتاب والسنة وتتوقَّى أي انحراف عنها ولو بدافع الورع أو ترقيق القلوب أو ترويض السلوك على الطاعة.

وأنا اعتمد في إبراز المعاني الأساسية في ذلك المقال الرائع المنير على الذاكرة مع الأسف، فليس تحت يدي هذا العدد المُبكِّر من الصحيفة الأسبوعيَّة، وكان يرأسُ تحريرها الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله تعالى صاحب «تفسير الجواهر» المعروف. وأظنُّه كان يتطلَّع للفوز بجائزة نوبل العالمية، ولم يكن الشيخ جوهري منتميًا لحركة الاخوان وإنْ رأس تحرير مجلتها بحكم مكانته كأحد علماء الأزهر المستنيرين وقتذاك. وقد أوجز حسن البنا خلاصة مقاله المشار إليه في مذكراته.

ولعل وظيفة أذكار الزرُّوقيَّة للطريقة الحصافية قد أثَّرت في الفتى الصغير بنهجها وأسلوبها فدعته حين أسَّس حركة الاخوان المسلمين إلى اختيار مجموعة من النصوص من الكتاب والسُّنَّة وجَّهت الأحاديث الصحيحة إلى ترديدها صباحًا ومساءً، وقد أسماها حسن البنا «المأثورات» تأكيدًا لكونها مأثورة مأخوذة من السنَّة النبويَّة المُطهَّرة دون ابتداع.

وكانت بعض هذه الأوراد والأذكار قد تخلَّلها الألفاظ أو الأعمال المبتدَعة الدخيلة التي قد تبلغ الغاية في الانحراف عن هدي الإسلام الصحيح.

كذلك كان حسن البنا يأخذُ من الناس عهدًا وبيعة، يمكن أن يرى فيهما أثر الطريق الصوفي كما يبدو فيهما الاقتداء بالسنَّة النبويَّة الصحيحة، فقد كان حسن البنا إذا تحدَّث في المساجد اختتم حديثه بأن يعاهد المستمعين «عهدًا» عامًّا على الاستقامة على أمر الله والتوبة من المعصية والغفلة، من قبيل ما ورد في القرآن الكريم عن بيعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للنساء (سورة الممتحنة – آية ۱۲).

ومثل هذا العهد على التوبة وطاعة الله تعالى، عرفته الطرق الصوفية مقرونًا بطاعة الشيخ واتِّباعه أحيانًا.

كما كان حسن البنا يتلقَّى «بيعةً» خاصَّة لمن ينخرط في سلك جماعته ويلتزم نهجها، وكانت عباراته مأخوذة من بيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه «على السمع والطاعة في العسر واليُسر والمنشط والمكره».

وقد أخرج حسن البنا مجموعة من «الأدعية» لقيام الليل، اختارها من السنَّة الصحيحة ومن أدعية بعض أقطاب الصوفية التي لا تخالف الكتاب والسنة، مثل ابن عطاء الله السكندري، وأبي الحسن الشاذلي، وأبي العباس المرسي، والرفاعي، فضلًا عن الشيوخ المتقدِّمين المعروفين بنهجهم في الوعظ والدعاء، وأسلوبهم الأدبي الرفيع في ذلك مثل الحسن البصري.

وفي مرحلةٍ متأخِّرة من تاريخ حسن البنا وجماعة الإخوان، توقفت طباعة هذه الرسالة التي كانت تسمَّى - المناجاة – مع استمرار طباعة رسالة «المأثورات» سالفة الذكر.

وأعتقد أنَّ هذا قد يشير إلى تزايد التأثير السلفي في فكر حسن البنا بحيث جعله لا يقبل على توجيه أبناء جماعته إلى «التزام» شيء في أمور العبادة ليس في الكتاب والسنَّة، وإن كان لا يتعارض مع هديهما.

على أنَّ التوجيه لقيام شيء من الليل في حدود الطاقة والوسع، ولو سُوَيْعة قبل صلاة الفجر ظلَّ من المعالم الثابتة لنهج الإخوان التربوي دائمًا، حيث يؤدِّي المرء ما يستطيع من ركعات الصلاة، ويقرأ من القرآن، ويدعو وَفْقًا للمأثور - مهما كان حظُّه من ذلك قليلًا -.

 ويُلاحظ أنَّ كلمة «الإخوان» استعملت في كثير من الطرق الصوفيَّة، واستعملت في الوهابيَّة والسنوسيَّة. وكانت «الله أكبر ولله الحمد» هتاف المهديَّة في السودان.

وكان لحسن البنا اجتماعٌ ليليُّ يُنظِّمه ليلة الجمعة - باعتبار يوم الجمعة التالي عطلة لا يلتزم فيه أحد بموعد عمل أو يوم دراسة. وكان يسمِّيه اجتماع «الكتيبة».

وهو يبدأ بصلاة العشاء مساء الخميس، وربما بصلاة المغرب إذا تيسَّر، ويعقب الصلاة تناول العشاء – وهو وجبة من طعام شعبي، مثل سندويشات الفول أو الطعمية أو الجبن الأبيض والحلاوة الطحينيَّة مع فاكهة رخيصة، مثل البلح أو البرتقال أو اليوسفي، ثم يقرأ كل واحد شيئًا من القرآن حتى يأتي موعد حديث الكتيبة، وكان يلقيه حسن البنا في أول الأمر غالبًا، ثم تعاون عليه بعض المبرزين من أفراد الجماعة في القاهرة والأقاليم، حين كثرت مشاغل «المرشد العام».

وكان هذا الحديث يُركِّز غالبًا على التوجُّه إلى الله تعالى والإخلاص في طاعته والاستقامة على أمره، وتذكُّر حسابه وجزائه في الآخرة.

وقلَّما يتَّجه إلى الأمور الفقهيَّة أو شؤون السياسة الجارية أو المباحث العلميَّة الجارية التي كانت تعالج في المحاضرات العامَّة لا في مثل هذه الاجتماعات الليليَّة التعبديَّة.

ويتنفّل المجتمعون قبل النوم، ثم يوقظون قبل الفجر بعض الوقت ليتهجدوا ويقرؤوا القرآن حتى يؤذِّن المؤذن لصلاة الصبح. وبعد الصلاة يكون هناك حديث آخر هو مثل الحديث الذي أعقب صلاة العشاء في تركيزه على التذكير بالله تعالى والاستقامة على أمره، ويفطر المجتمعون معًا إفطارًا قوامه سندويتشات الفول أو الطعمية، وأكواب الشاي، وينصرف المجتمعون إلى بيوتهم للاستعداد لصلاة الجمعة، وتمضية العطلة مع أهليهم وقد يؤدُّون نافلة «الضحى» قبل انصرافهم.

وقد برز في التوجُّه في هذه الاجتماعات التربويَّة إلى جانب حسن البنا الأستاذ البهي الخولي رحمه الله تعالى. وكان مدرِّسًا للغة العربية بمعهد طنطا الديني ومن خريجي دار العلوم. وقد ظهر له كتاب «تذكرة الدعاة إلى الله» بتقديم حسن البنا. وتولَّى الإدارة العامة بوزارة الأوقاف فيما بعد.

وتضمَّنت رسالة «المأثورات»، التي أعدَّها حسن البنا التوجيه إلى قراءة قدر مناسب من القرآن يوميًّا حسب الإمكان، وهذا هو «الورد القرآني»، وقد أوردت الرسالة آداب التلاوة والاستماع، وحثَّت على حفظ ما تيسَّر من كتاب الله.

وقد نشرت الجماعة لطالب من قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، كان ينتمي إليها وقتذاك - هو الأستاذ الدكتور أحمد لطفي عبد البديع المتخصِّص في الأدب الأندلسي بعد ذلك - رسالة في «أحكام التلاوة».

كذلك دعا حسن البنا إلى أن يُخصِّص كل واحد دقائق قبل نومه يحاسب فيها نفسه على ما قدَّم من عمل في يومه، وأسمى ذلك «ورد المحاسبة»: «فإن وجد الأخ خيرًا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليستغفر وليسأل ربه، ثم يجدد التوبة، وينام على أفضل العزائم».

 

على أنَّ حسن البنا رحمه الله تعالى حتى في مرحلة حياته الباكرة كان يرى في التربية الصوفيَّة شحذًا للهمَّة، وتنميةً للعزيمة والمصابرة والعزَّة بالله تعالى، ويؤكِّد دائمًا أنَّ التوكل على الله تعالى غير التواكل والتهاون والهوان والبلادة، وأنَّ الزهد الصحيح هو: أن يزهد المرء فيما يملك، فيوجِّهه لصالح الجماعة والأمَّة، ولذوي الحاجة، وليس أن يزهد فيما لا يملك، فهذا زهد العجز الذي يعزِّي نفسه ويعلِّلها بكسب الآخرة، وقد يكون بذلك خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإنَّ حقيقة ذكر الله تعالى هي دوام مراقبته وخشيته في كلِّ قول وفعل، وإنَّ ذكره باللسان ينبغي أن يكون تعبيرًا عما يجيش في القلب، وأن يلتزم بالنهج المشروع في السُّنَّة.

 

وهو يشير في مذكراته إلى مناقب مؤسس «الطريقة الحصافية» التي تبعها في فتوَّته، وهو الشيخ حسين الحصافي رحمه الله تعالى، وهو لم يُدركه وإنَّما أدرك ولده. ويبرز من هذه المناقب: "إنكاره المنكر على حكام مصر في عصر الخديوي توفيق وناظر نظارة رياض باشا وأحد كبار موظفي الانجليز بعد الاحتلال البريطاني لمصر.

فقد دخل الشيخ الحصافي على الخديوي توفيق مع العلماء في إحدى المقابلات، فسلَّم على الخديوي بصوت مسموع، فردَّ عليه الخديوي بالإشارة بيده، فقال له في عزم وتصميم: ردُّ السلام يكون بمثله أو بأحسنَ منه. فقل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، والردُّ بالإشارة وحدها يجوز، فلم يسع الخديوي إلَّا أن يردَّ عليه باللفظ ويثني على موقفه وتمسُّكه بدينه".

وتعبير حسن البنا عن الخديوي بأنَّه «لم يسعه إلا... » يومئ إلى رأيه فيه ويُبعد مظنَّة الثناء عليه حتى في هذا المقام، ولا يفوت حسن البنا أن يؤكِّد أنَّ الصوفي الحق صحيح الاعتقاد، بريء من أيَّة مظنَّة للإشراك بالله الأحد الذي ليس له كفوًا أحد، فيذكر أنَّ الشيخ الحصافي زار مسجد الحسين مع بعض مريديه، فزار قبره الزيارة المشروعة لقبور الموتى، وحين قال له أحد مريديه: «يا سيدنا الشيخ، سل سيِّدنا الحسين يرضى عني». فالتفت إليه مغضبًا وقال: «يرضى عنا وعنك وعنه الله... »، وشرح لإخوانه أحكام الزيارة الشرعيَّة.

وكان حسن البنا كثيرًا ما يؤكِّد إقبال الصوفية الجديرين بهذا الوصف على الجهاد في سبيل الله، واعتبارهم التزام الثغور والمرابطة فيها أعلى مراتب العبادة حتى اقترن في تاريخ «الرباطات» أو «الربط»، في الإسلام بجهاد العدو والتزام العبادة وتعليم القرآن والسنَّة في أوقات الهدنة وانقطاع القتال.

 

وكم ترنَّم حسن البنا بهذه الأبيات التي وردت في مساجلةٍ بين شيخين زاهدين جليلين هما عبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض؛ التزم الأخير الصلاة والتعبُّد في البيت الحرام بينما ذهب الأول لقتال الروم الذين كانت دولتهم تتاخم دولة الخلافة وتهدُّدها.

فكتب المجاهد إلى العابد سنة 170 هـ بهذه الأبيات التي ذكرها ابن كثير في تفسيره للآية الأخيرة من سورة آل عمران، ومازلت أحفظها منذ سمعتها من حسن البنا رحمه الله تعالى:

يا عابدَ الحرمين لو أبْصرتَنا ** لعلمتَ أنَّك في العبادة تلعب

من كان يخْضب خدَّه بدموعه ** فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل ** فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ** رهج السنابك والغبار الأطيب

 

كذلك كان يشير رحمه الله تعالى إلى ارتباط السيد أحمد البدوي المدفون في طنطا من أعمال مصر بالحركة الفاطمية وجهادها. وكان من ثمار توجيه حسن البنا أن اتَّجه بعض من تأثَّر به إلى دراسة «الصوفية المجاهدة» لإبطال الزعم بانشغال الصوفية بما سمِّي بـ «الجهاد الأكبر» - أي : جهاد النفس – وإيثارهم إيَّاه على «الجهاد الأصغر»، وهو جهاد العدو فكتب العالم والسياسي التونسي محيي الدين القليبي من أقطاب الحزب الدستوري القديم بعد زعيمه البارز عبد العزيز الثعالبي عن «الرباط في سبيل الله».

وقد بدأ حسن البنا في مذكَّراته مؤمِّلًا في «ترشيد» الطرق الصوفيَّة على الرُّغم من انحرافاتها، فقد كتب يقول: «ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير في إصلاح هذه الطوائف من الناس ، وإصلاحهُم سهلٌ ميسورٌ، وعندهم الاستعداد الكامل له، ولعلهم أقرب الناس إليه لو وجِّهوا نحوه توجيهًا صحيحًا... ولو أراد الله والتقت قوَّة الأزهر العلميَّة بقوَّة الطرق الروحيَّة بقوَّة الجماعات الإسلاميَّة العمليَّة؛ لكانت أمَّةً لا نظير لها...».

على أنَّ الشيخ محمد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده ، على عكس هذا الرأي تمامًا ، وهو يُبْدي يأسه من إصلاح الطرق وتقويم اعوجاجها؛ إذْ تأصَّل فيها – وذلك في كتابه المعروف «تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده».

كذلك واجه الشيخ عبد الحميد بن باديس صراعًا مريرًا مع الطرق الصوفيَّة خلال دعوته الإصلاحيَّة بالجزائر، تعاونت فيها الطرق وشيوخها مع الاستعمار الفرنسي ضده، على أنَّ حسن البنا قد ذكر في موضوعه الإنشائي في العام الدراسي النهائي بدار العلوم سنة 1927 عن أعظم آماله بعد إتمام دراسته والوسائل لتحقيقها : «إنَّ خير النفوس تلك النفوس الطيبة التي ترى سعادتهم في إسعاد الناس وإرشادهم،.... والذي يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين؛ لكلٍّ خواصُّه ومميِّزاته: أولهما: طريق التصوف الصادق،... وهو أقرب وأسلم، والثاني: طريق التعليم والإرشاد،... وهذا أشرف عند الله تعالى وأعظم... وقد رجُح الثاني بعد أن نهجت الأول؛ لتعدُّد نفعه، وعظيم فضله، ولأنَّه أوجب الطريقين على المتعلِّم وأجملهما لمن فقه شيئًا....

وأعتقد أنَّ قومي بحكم الأدوار السياسيّة التي اجتازوها، والمُؤثِّرات الاجتماعيَّة التي مرَّت بهم، وبتأثير المدنيَّة الغربيَّة، والفلسفة الماديَّة، والتقليد الفرنجي، بعدوا عن مقاصد دينهم، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نُسب إليه ظلمًا وجهلًا....

فكان أعظم آمالي بعد إتمام دراستي أملان: خاصٌّ: هو إسعاد أسرتي وقرابتي،... وعام: وهو أن أكون مرشدًا معلِّمًا، إذ قضيْت في تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام، قضيت ليلي في تعليم الآباء دينهم، ومنابع سعادتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة».

وهكذا اختار حسن البنا طريقه، ولقي الشهادة فيه، وهو يمضي في مذكراته فيقول بعد صفحات عن استهلاله نشاطه في الدعوة حين عُيِّن مدرسًا بمدينة الإسماعيليَّة بعد تخرجه:

«لم أكن متحمّسًا لنشر الدعوة على أنَّها طريق خاصٌّ لأسباب أهمها: أنَّني لا أريد الدخول في خصومة مع أبناء الطرق الأخرى، وأنَّني لا أريد أن تكون محصورة في نفر من المسلمين، ولا في ناحية من نواحي الإصلاح الإسلامي. ولكنّي حاولت جاهدًا أن تكون دعوة عامَّة جامعة قوامها العلم والتربية والجهاد - وهي أركان الدعوة الإسلاميَّة الجامعة».

وما لبثت هذه الوجهة الإصلاحيَّة الجامعة أنْ تأصَّلت في ذهن حسن البنا فلم يرضَ بها بديلًا، ولم يتردَّد في المُضيِّ فيها قُدمًا وإيثارها على نهج الطريق الصوفي، فقد كتب في آخر ما نشر من مذكراته رحمه الله تعالى:

«حضر اليوم... من القصَّاصين، وهو يدعو إلى الطريقة، وله أفكار خاصَّة تنافي آمالي الإسلاميَّة، وأنا إنَّما وقفتُ نفسي لدعوة أرى أنها خير السبل للإصلاح الإسلامي، وأمثال هؤلاء يريدون تحويلها وتشكيلها بشكل دعواتهم، وذلك ما لا أريده، فلقد آن الأوان الذي أعتزُّ به عن كل هذه الدعاوى المشتبهة، وأكشف فيه عن الغاية للإصلاح الإسلامي الذي يتلخَّص في الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وتطهير العقول من هذه الخرافات والأوهام، وإرجاع الناس إلى هدي الإسلام الحنيف».

على أنَّ حَسَن البنا - رحمه الله تعالى - بعد هذه «المفاضلة» الحاسمة ما فتئت نشأته الصوفيَّة الأولى تجْذبه إلى ما يمكن أن يكون إيجابيًّا فيها، فقد وصف جماعته في خطابه الجامع سنة ١٣٥٧هـ الذي ألقاه بعد عشر سنوات من قيام الجماعة بقوله:

«إننا دعوة سلفية، وطريقة سنيَّة، وحقيقة صوفيَّة، وهيئة سياسيَّة، وجماعة رياضيَّة، ورابطة علميَّة ثقافيَّة، وشركة اقتصاديَّة، وفكرة اجتماعيَّة... » وهكذا نرى أن شمول معنى الإسلام قد كسب فكرتنا شمولًا لكل مناحي الإصلاح!

 

ثم تراه في صدر رسالة «التعليم» يقرِّر: «الإسلام نظامٌ شاملٌ يتناول مظاهر الحياة جميعًا...والقرآنُ الكريم والسنَّة المطهَّرة مرجع كل مسلم في تعرُّف أحكام الإسلام... »..

ويتبع ذلك بقوله: «وللإيمان الصَّادق، والعبادة الصحيحة، والمجاهدة، نور وحلاوة، يقذفها الله تعالى في قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى، ليست من أدلة الأحكام الشرعيَّة، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها مع أحكام الدين ونصوصه.

والتمائم والرقى والودع وادِّعاء معرفة الغيب، وكل ما كان من هذا الباب، منكرٌ تجب محاربته.

وكل بدعة في دين الله لا أصل لها، ضلالة تجب محاربتها بأفضل الوسائل التي لا تؤدِّي إلى ما هو شرٌّ منها.

ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عُرف من طيب أعمالهم قُربة إلى الله تبارك وتعالى. والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 63]. والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعيَّة، مع اعتقاد أنَّهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا في حياتهم أو بعد مماتهم، فضلًا عن أن يهبوا شيئًا من ذلك لغيرهم.

وزيارة القبور أيًّا كانت سنَّة مشروعة بالكيفيَّة المأثورة، ولكنَّ الاستعانة بالمقبورين أيًّا كانوا ونداؤهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قُرْب أو بُعْد، والنَّذر لهم، وتشييدُ القبور وسترها وإضاءتها والتمسُّح بها، والحلِف بغير الله وما يلحق بذلك من المبتدعات، كبائر تجب محاربتها، ولا نتأوَّل لهذه الأعمال سدًّا للذريعة.

والعقيدةُ أساس العمل، وعملُ القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيلُ الكمال في كليهما مطلوب شرعًا.

وهكذا حرص حسن البنا على ميزان الحق والإنصاف في تقرير المفاهيم التي ركزها لمن تتلمذوا عليه في «تعاليمه»... وبقي الصحيح من ركائز الفهم الصوفي والسلوك الصوفي مقبولًا عند حسن البنا رحمه الله تعالى بعد تمحيصها بمعايير القرآن والسنَّة؛ لأنَّها بعد هذا التمحيص تكون في حقيقتها إسلاميَّة محضة، وإن شُغل بها الصوفيَّة حتى عُرفت بهم وعُرفوا بها.

 

هوامش:

(1) مجلة الهلال، العدد السادس: 1985.

(2) رئيس تحرير مجلة أرابيا التي تصدر في لندن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين