شرعَ اللهُ تعالى الإسلام ديناً للإنسانية عاماً خالداً، وجعله خاتم حلقات سلسلة الوحي المُتلاحقة في سجل التاريخ الإنساني من لدن آدم إلى محمد -صلوات الله عليه-، فكان هو الحلقة المكملة لتنزيل الرحمة التشريعية إلى الإنسان في هذه الأرض.
وقد شاءت حكمة الله أن تكون كل حلقة من حلقات التشريع الإلهي على قدر استعداد الجماعة التي تأتي لها في تكوينها الطبعي والخُلُقِي والاجتماعي، وكأنما نَظَمَ الله الإنسانية بالوحي عقداً اجتماعياً مُتماثل الحلقات في كل جيل وقبيل، وإن اختلفت في الوضع والتصوير، لتتفق مع وضع الأمة في مكانها من الحياة { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} حتى إذا اكتملت الإنسانية في حقيقتها المُطلقة وتهيَّأت للوحدة الفكرية والاتجاه العقلي، جاءها الإسلامُ مُهَيمنا على زمامها، ليرشدها إلى ما أعدَّت له من الكمال الذي يسمو بها عن حضيض الأرض إلى ملكوت السماء.
ومن ثم كانت الشرائع السابقة إنما تُخاطب عقلاً خاصا محدوداً خطابا خاصا محدودا، لا يتعدي هذا الجيل من الناس إلى غيره من الأجيال، ولا هذا القبيل إلى سواه من المجتمع، ولا ذلك التشريع إلى تشريع أوسع وأعمق؛ لأن العقل الإنساني العام لم يكن صالحا حينئذ لهذا الخطاب العام، لكن الإسلام عمد إلى هذا العقل الإنساني العام بعد أن تهيأ في تكوينه إلى الاضطلاع بعبء الحياة، وخاطبه خطاب المرشد إلى الطريق الأقوم، وجعله قَيِّمًا على شؤون الحياة كلها، وأبى الإسلام أن يقبل سلطانا غير سلطان العقل، وشدَّد النكير على الذين استسلموا لبلادة الحسِّ، وأناموا عقولهم عن النظر والتفكير، فقال في دستوره ناعيا عليهم ازدراء عقولهم وتشبثهم بالغباء في اتباع آبائهم على ضلالاتهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}.
وقال في هذا الباب أيضا على مهيع آخر: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ}.
فهذا التسفيه البالغ حد التحقير للمخاطبين أشد إيلاما لنفوسهم، وألذع في أفئدتهم، وقد مهد له القرآن بقضية من بَدائة الفِطَر لا تختلف فيها العقول سيقت للتنبيه على موطن الخطأ العقلي في مسلكهم، حيث تعبدوا أنفسهم لما لا يستحق الحياة، بله العبادة والتقديس. هم يعلمون أن الأصنام ليست لها أرجل تمشي بها، ولا أيد تبطش بها، ولا أعين تبصر بها، ولا آذان تسمع بها، ولكن في نفي هذا المعلوم بداهة عن طريق الاستفهام إزراء على عقولهم بأبدع أسلوب: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقد أراد القرآن الكريم بهذا المبدأ السامي إيقاظ العقل وتنبيهه إلى أداء مهمته وإبراء النفس الإنسانية من مرض التقليد الأصم، وتربية القوى الفكرية على الاعتداد بالنفس واستقلال الرأي وحرية التفكير، ولذلك أثنى على الذين أيقظوا عقولهم وتفلتوا من قيود التقليد إلى ساحات النظر في آيات الله في الأنفس والآفاق، وساروا بسير العلم غير ملتفتين إلا إلى الحق فلم يقولوا: [إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ] {الزُّخرف:23}. ولا اعتذروا اعتذار العاجز الذليل: [رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا] {الأحزاب:67}. فقال تعالى: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191) ]. {آل عمران}.
هذا النوع من التشريع الفكري من أهم ما عُنِيَ به القرآن الحكيم، فردَّده كثيرا في آيات بينات على أنحاء شتى، تعظيماً لقدر الإنسانية وإجلالا لمقام العقل العام في حدود تكبح من جماحه إذا تطلع إلى تعدي طوره، ومجاوزة حده، وهو يطلعنا على أخص خصائص الإسلام وأعظم مميزاته على الشرائع الأخرى إطلاقا، تلك الخصيصة هي أن الإسلام أقام من العقل الإنساني حارسا على الإنسانية، وَمَلَّكَ الإنسانية الحياة لتكون حية نامية، والنمو رقي في مدارج الكمال. وهو بهذه الروح الهادئة القوية ضَمِنَ لنفسه البقاء والهيمنة على ما سواه: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه).
فهِم المسلمون الأوّلون الإسلام على هذا الأساس، فعظموا حرية الرأي تعظيماً جعل منهم أمة ناهضة مدت سلطانها على أقطار الأرض في زمن لا يمكن أن ينهض بهذا السلطان القاهر لو كانت الأمة القائمة على أمره حبيسة العقل مقيدة التفكير، وليس مبدأ الشورى الذي جاء به الإسلام وجعله مناط الثناء على المؤمنين فقال: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] {الشُّورى:38}, وأمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ليجعله دستورا بينه وبين أمته فقال: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] {آل عمران:159} إلا قاعدة من قواعد حرية الرأي وتقديسها، فاستمع الرسول أمر ربه، وجرى على هذا السَّنَن فيما لم ينزل عليه وحي فيه.
روى البخاري في صحيحه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاء وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معي من ترون، وأَحَبُّ الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم -وكان أَنْظَرَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة حين قَفَل من الطائف- فلما تبيّن لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير رادٍّ إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيّب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيّبنا ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يَرْفَع إلينا عرفاؤُكم أمركم، فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذِنُوا).
هذا الحديث الشريف يصوّر أقصى ما تبلغ إليه الأمم الناهضة من حرية الرأي ونظام النيابة الفاضلة، ومحو الاستبداد، وفيه من الفوائد العظيمة التي تدنو منا في عصرنا هذا، عصر الحرية الفكرية واستقلال الرأي، ما يجل عن الوصف، ولنتحدث منه فيما يمس موضوع "حرية الرأي" الذي عقدنا هذا المقال لأجله:
أول ما يبْده القارئ من هذا الحديث قول النبي صلوات الله عليه لهؤلاء الذين دخلوا في الإسلام جُدُدا: (معي من ترون، وأَحَبّ الحديث إلي أصدقه)؛ ليشعرهم بقانون الإسلام العام، وهو احترام الحقوق وتقديس حرية الرأي، والتجافي عن روح الاستبداد، والحكم الفردي، فكأنه يقول: إن الأمر صار إلى الأمة، ولا بد من أخذ رأيها، مع أنه لو فعل شيئا ما طرفت عين بمخالفته [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}، ولكنه مشرع لدين عام خالد، وهؤلاء تلاميذ مدرسته العظمى، مدرسة الحياة، والقائمون بأمر هذا الدين من بعده، فهم في حاجة إلى دروس في التربية الاستقلالية والاعتداد بالنفس وحرية الرأي، فردّ إليهم الأمر ليعلم وافدو الإسلام روح التشريع في الإسلام، وليعلم حماة الإسلام مكانهم من الدين، ومكان الدين منهم.
ثانيا: لم يشأ -صلوات الله عليه- أن يجبر هوازن بعد أن استأنى بها وقطع عذرها على قبول طائفة بعينا، بل خيرهم بين إحدى الطائفتين: إما المال، وإما السبي، وفي ذلك من احترام الرأي ما لا يحتاج إلى بيان.
ثالثا: عَرَضَ الأمر على أصحابه، وذكر لهم توبة إخوانهم، وقال لهم: إني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم، ثم أطلق لهم حرية الرأي، وأبان أنه لا يحكم إلا بما تطيب به نفوسهم، فقالوا قد طيّبنا ذلك، أَفَتَرَاهُ -وهو الرسول الأمين- قام إلى سبي هوازن فرده إليهم اتكالا على إجابة عامة من حشد المسلمين؟ كيف ولعل في غمار المسلمين من لم يؤبه له، ولا يعرف رأيه في هذا الجمع العظيم، والمسلمون سواء أمام التشريع العام، لكل مسلم رأيه، ولكل رأي اعتباره، لا، لم يتفرد النبي برأيه، ولكنه عمد إلى أدق نظم حرية الرأي، وأحراها بالعدالة فجرى عليها: أمرهم أن يرجعوا إلى أنفسهم، ويتعرفوا منها الرضا أو الإباء وينضجوا رأيهم، ويتفاوضوا مع نوابهم، ثم يرفعوا إليه ما استقر عليه رأيهم.
نظام بلغ أسمى آيات (الديمقراطية) كما يقولون في أمة حديثة ناشئة، أليس هو أحدث ما تطمح إليه الأمم الناهضة لتعيش في ظله؟ فليتبصر الذين لا يعرفون من الإسلام إلا قشورا منثورة هنا وهناك ليست من الإسلام في الصميم.
اشترع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشِّرعة النَّقِية الطاهرة في حرية الرأي، فاستن بسنته خلفاؤه الراشدون من بعده، فهذا هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد ملَّكَهُ المسلمون رقابهم وأموالهم، وبايعوه بالخلافة بيعة رضا واطمئنان، خطب الناس أول ما خطبهم بعد مقام الخلافة فقال: (أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإني أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني). فكيف تكون إذن حرية الرأي؟!! خليفة يملك من أمر الناس ما لا يملكونه في بيوتهم، ثم يرد إليهم أمر نفسه ويجعلهم ميزانا لأعماله، ويطلب منهم العون إن أحسن، والتقويم إن أساء. بهذه الروح ظفر أبو بكر رضي الله عنه بالعرب بعد أن ارتدت أقاصيها.
ولقد سرت هذه التعاليم في المسلمين، فكان من أثرها أن يقوم رجل من عرض المسلمين يقول لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد قوله: (من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقومه): (والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومنه بسيوفنا)، فيقول عمر: (الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عوج عمر)، إنما حمد الله عمر لأنه رأى في الأمة روح الاعتداد بالنفس ساريا فاطمأن على أنه يتأمّر أمة لا تلين لها في الحق قناة.
بل إن عمر رضي الله عنه بث في الأمة حرية الرأي بين كبيرها وصغيرها، روى ابن الجوزي أن عمر بن الخطاب قال: (لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي القَصّة، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال)، فقالت امرأة من صف النساء طويلة في أنفها فطس: ما ذاك لك، قال: ولم؟ قالت: لأن الله يقول: [وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] {النساء:20} فقال، عمر: (امرأة أصابت، ورجل أخطأ).
وإذا تأملنا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد إلى الرفيق الأعلى ولم يخلف على المسلمين رجلا بعينه، وهذا كان ميسورا وحاسما، علمنا أن ذلك أثر من آثار حرية الرأي في الإسلام. وأبو بكر رضي الله عنه لم يخلف عمر بن الخطاب إلا بعد أن فوض إليه المسلمون ذلك.
روى ابن الجوزي: (أنه لما ثقل أبو بكر واستبان له من نفسه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا ميتا لما بي، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياةٍ مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي"، فقاموا في ذلك وخلوا عليه، فلم تستقم لهم، فرجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فلعلكم تختلفون، قالوا: لا، قال: فعليكم عهد الله على الرضا، قالوا: نعم، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده).
فإذا كانت حرية الرأي في الإسلام تتجلى في أخطر مسألة يدور عليها كيان الأمة، ويترك لكل مسلم أن يقول فيها رأيه في أحرج المواقف، كانت أحرى أن تتمشى مع الأمة في مراحلها التشريعية والاجتماعية، فأما التشريع فحسب القارئ الاطلاع على تاريخ فجر النهضة الإسلامية ليعلم كم كان من المجتهدين الذين لا يصدرون في رأي إلا عن كتاب الله أو سنة الرسول الصحيحة، وحتى إن الأصوليين يختلفون في أصحاب رسول الله: هل جميعهم مجتهدون؟ وكتب الفقه والأصول مليئة بالفروع التي وقع فيها الخلاف بين الأئمة، وما عاب أحد منهم على أحد اجتهاده، ولا حجر عليه رأيه، فهذا مالك بن أنس إمام المدينة: قال له أبو جعفر المنصور: اجعل هذا العلم علما واحدا. فقال له مالك: (إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رأى، فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول). وفي رواية أنه قال له: (إن أهل العراق لا يرضون علمنا). فقال أبو جعفر: يضرب عليه عامتهم بالسيف، ونقطع عليه ظهورهم بالسياط، فأبى مالك. فانظر إلى إجلال مالك بن أنس -وهو من أجل أئمة المسلمين المقتدى بهم في مشارق الأرض ومغاربها- لحرية الرأي وتجافيه عن خذلانها.
خليفة مسلط يعرض عليه نشر علمه في الأرض ولا يكون بين الناس غير رأيه فيأبى؛ لأن لكل مجتهدي مصر من أمصار المسلمين رأيا أخذوه عن منبع الشريعة.
حرية الرأي أساس فهم عمومية الدين، وهيمنته على سائر الأديان، وصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وأنه لا حاجة معها إلى قانون آخر. قال العلامة ابن القيم: (ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالاتها، وأنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها مواضعها، وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة).
ومن البداهة بالمكان الأول أننا لا نعني بحرية الرأي ما يفهم من كلمة (الفوضى) حتى يباح لكل مُتعلم فضلاً عن شبه المتعلم أن يقول في الشريعة برأيه, وإنما نعني أن العالم الثقة إذا فهم في الشريعة فهما وساق بين يديه دليله، فلا سبيل عليه، ولا تحجير على فضل الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر: مجلة الأزهر: الجزء السادس / المجلد السادس / 1354هـ
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول