حِرص أهل الإيمان على حُسن الخِتام

عناصر المادة

1- كيف يسبق على المرء كتابه؟2- خوف السَّابقين مِن الخواتيم

مقدمة:

جميعنا -بِلا استثناءٍ- نجري إلى مصيرٍ واحدٍ محتومٍ؛ لا شكّ فيه، يؤمن به الصّالح والكافر، والبَرّ والفاجر، إنّه الموت، تلك اللّحظة الّتي لا بدّ منها، والكأس الّتي يشربها كلّ حيٍّ:

في الذَّاهِبِيْنَ الأوَّلِيْـــ=ـــــــــنَ من القُرُونِ لنا بَصَائرْ

لَمّـّا رَأيْتُ مَوارِدًا=لِلْمَوْتِ ليس لها مَصَادِرْ

ورَأيْتُ قَوْمي نَحْوَها=تَمْضي الأصاغِرُ والأكابِرْ

أيْقَنْتُ أنّي لا مَحَا=لَةَ حَيْثُ صارَ القَوْمُ صائرْ [ 1 ]

أوليس لنا أن نتساءل: متى يكون الموت؟ وأين سيكون؟ لأنّه سبق قول الحقّ جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].

لكن حقٌّ علينا أن نسأل أنفسنا: كيف ستكون الخاتمة؟ هل سيُختم لنا بعمل أهل الجنّة؛ فنكون من السعداء؟ أم يكون غير ذلك والعياذ بالله؟

وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: (لَا، اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ). [ 2 ]

فهل أعمالنا ونوايانا اليوم تؤثّر في خواتيمنا غدًا؟!

1- كيف يسبق على المرء كتابه؟

بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أقدارنا تُكتب ونحن أجنّةٌ في بطون أمّهاتنا؛ فسعيدٌ تقيٌّ، وفاجرٌ شقيٌّ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ- قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا). [ 3 ]

يُشْكِلُ هذا الحديث على بعض النّاس مِن حيثُ لزومِ الخاتمة السّيّئة للرّجل المحسن طيلة حياته، لا لشيءٍ، سوى أنّه قُدّر عليه ذلك وهو جنينٌ، والحقيقة أنّ هذا الفهم لا يشهد له الحديث، بل فهمه الصّحيح أنْ تكون الخاتمة السّيّئة لمن أحسن في ظاهره فيما يبدو للنّاس، لكنْ علِم الله عز وجل منه سوء الطّويّة وفساد النّيّة فأظهرها على الملأ يوم موته، ويشهد لهذا الفهم الحديثُ الصّحيح، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، التَقَى هُوَ وَالمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ: مَا أَجْزَأَ مِنَّا اليَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ المَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ). [ 4 ]

فليست الخواتيم عبثيّةً واعتباطيّةً، بل هي مِن القدَر، والقدَر مِن أمر ربّنا، وربّنا حكيمٌ عليمٌ، وسبب ورود هذا الحديث يُوضّح الأمر، ويُزيل اللّبس.

2- خوف السَّابقين مِن الخواتيم

إنّ الخاتمة وإن كانت مقرونةً بحكمة الله سبحانه وعلمه، إلا أنّ السّلف الصّالح كان يشتدّ خوفهم مِن الخواتيم، لأنّهم يتّهمون أنفسهم في أعمالهم ونواياهم، فلا يثقون فيما قدّموا مِن عملٍ، ولا يركنون إلى ما أسلفوا مِن صالحاتٍ، وهم بذلك يسيرون على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذي علّم أمّته أنْ تطلب دائمًا الثّبات على الحقّ إلى أن يُختم بالخير، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: (نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا). [ 5 ]

وقد كان سفيان الثّوريّ: يشتدّ قلقه مِن الخواتيم؛ فكان يبكي ويقول: "أخاف أن أكون في أمّ الكتاب شقيًّا، ويبكي، ويقول: أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت" وكان مالك بن دينارٍ يقوم طول ليله قابضًا على لحيته ويقول: "يا ربّ قد علمت ساكن الجنّة مِن ساكن النّار، ففي أيّ الدّارين منزل مالكٍ"، وقال سهل التّستريّ: "المريد يخاف أن يُبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يُبتلى بالكفر". [ 6 ]

ومِن هذا الباب يمكن أن نفهم خوف الصّحابة مِن أن يُنسب أحدهم للنّفاق والمنافقين، وهو السّابق بالإسلام، الّذي قدّم ما قدّم لدين الله جل جلاله، وكانت كتفه تُزاحم كتف النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المشاهد، ومع ذلك يخشى أن يكون منافقًا؛ لأنّه يتّهم نفسه، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: دُعِيَ عُمَرُ رضي الله عنه لِجِنَازَةٍ، فَخَرَجَ فِيهَا أَوْ يُرِيدُهَا، فَتَعَلَّقْتُ بِهِ فَقُلْتُ: اجْلِسْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْ أُولَئِكَ، فَقَالَ: "نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَنَا مِنْهُمْ؟"، قَالَ: "لَا وَلَا أُبَرِّئُ أَحَدًا بَعْدَكَ". [ 7 ]

أمّا مَن اعتدّ بما عمل مِن خيرٍ، وظنّ أنّه ناجٍ به؛ فربّما أهلكه ذلك، لأنّ مَن أمن العقوبة أساء الأدب، والرّهبة والخشية مِن سوء الخاتمة، تسوق المرء المحسن إلى مزيدٍ مِن الإحسان، فتأمّل كيف نجمع في اعتقادنا ما يُنزّه ربّنا عز وجل عن العبث، فهو الحكيم في أقداره وأقواله وأفعاله، وكيف نجعل مِن ذات المعتقد دافعًا لنا وحافزًا إلى مزيدٍ مِن العمل الصّالح.

ولهذا ترانا نطلب الهداية إلى الصّراط المستقيم في كلّ صلاةٍ، وقد يقول قائلٌ: كيف نطلب الهداية ولا يقف بين يدي الله سبحانه إلا مهتدٍ؟ هذا لأنّنا لا نضمن بقاءنا على ما اهتدينا إليه، فنسأل الله الثّبات على الحقّ وأن يختم لنا بالصّالحات، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

خاتمةٌ:

نؤمن بالقدر، ونؤمن أنّ كلًا ميسرٌ لما خُلق له، لكنْ هل التّيسير عشوائيٌّ عبثيٌّ، أم له قانونٌ ينتظمه، يجيبنا كلام الله جل جلاله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 1-11].

إذا كنّا نعذّ الخطى إلى الموت، ولا ندري بم يُختم لنا، وإلام نحن مُسيّرون؟! فلنتذكّر هذا القانون: العطاء والتّقوى والتّصديق بالحسنى بوّابة التّيسير لليسرى.

وما أحوجنا في هذا الظّرف الّذي نحن فيه إلى هذه الثّلاثيّة؛ أن نصدّق أنّ الله سبحانه أعدّ لعباده الصّالحين نعيمًا يتنعّمون فيه ينسَون ما لاقَوا في هذه الفانية مِن شظف العيش، وأن نتّقي الله في شأننا كلّه، وأن نعطي ممّا أعطانا الله سبحانه وتعالى، مطلق العطاء، يعطي ذو المال مِن ماله، وذو الجاه مِن جاهه، وذو العلم مِن علمه، وعندها لن يضيّعنا الله وستكون خطانا ميسّرةٌ للخير، أمّا الّذي اختار الطّريق الآخر فكذّب بنعيم الآخرة، وبخل بما آتاه الله عز وجل، واستغنى عمّا عند الله سبحانه، فلا يلومنّ إلّا نفسه، إن وجد خطاه تتّجه نحو العسرى، ولا يقولنْ "غلبني كتابي، وسبق عليّ قدري" بل ليعلمْ أنّ ما يُسّر إليه إنّما هو نتيجةٌ لاختياره، و "على نفسها جنت براقش"، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 22-23].

 

1 - أبياتّ لقسّ بن ساعدة

2 - صحيح مسلم: 2647

3 - صحيح مسلم: 2643

4 - صحيح البخاريّ: 2898

5 - مسند أحمد: 12107

6 - جامع العلوم والحكم، 1/58

7 - مسند البزّار: 2885

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين