حرب غزة يوميات ومشاهدات.. مكتبتي،، سلام عليكِ

فتحت عينيَّ من الدنيا على خِزانة كتب صغيرة (يسميها الناس عندنا نَمْلِيَّة) تركها لنا عمي شريف (أبو طارق) قبل أن يغادرنا إلى نجد، وكان يدرس في معهد شرعي في مدينة بيت لحم، كان في تلك الخزانة "الزهد" للإمام أحمد، و"الإتقان" للسيوطي، و"الظلال" لسيد، و"لمحات في أصول الحديث" للصالح، وغيرها مما أذكره ولا أذكره.

نسيت "ألف ليلة وليلة" بطبعته القديمة الصفراء في ثلاث مجلدات كبار، وماذا يصنع الطفل الصغير بـــــ "الزهد" و"الظلال" و"الإتقان" وبين يديه "ألف ليلة وليلة"، فكنت أصحبه إلى دكان والدي رحمه الله في حارتنا القديمة، وأقرأ فيه في أوقات الفراغ حتى أتيت عليه، ثم قرأته ثانية وثالثة حتى تمزق بين يديَّ ثم ضاع مني ولا أدري ماذا فعلت به الأيام.
هذا أول كتاب قرأته في حياتي، وإن كنت اليوم لا أذكر منه شيئا سوى شهرزاد وشهريار والليالي الملاح= غير أنه حبب إلىَّ القراءة والكتب، ومنه ومن تلك (النملية) بدأت رحلتي مع الكتاب.

ولست هنا للحديث عن قصتي مع الكتب، فلهذا شأن لا يتسع له المقام هنا، وليس من المروءة أن أتوسل بالحديث عن الحرب إلى الحديث عن نفسي، لكني أتمهَّد إلى هذه اليوميات والمشاهدات بما لا بد منه، أولا يخرج بنا عن المقصود إن شاء الله.

اتسعت مكتبتي مع مرور الأيام، وكبِرت الخزانة الصغيرة شيئا فشيئا حتى استقلَّت في غرفة في بيت أهلي، ثم ضاقت الغرفة ورُزقنا الأولاد ففررت بنفسي ومكتبتي إلى سطح البيت، فبنيت لها بناء مستقلا يفصلني عن الدنيا، كنت أقضي فيها غالب وقتي، وأجتبي إليها من الكتب ما تقدر عليها يدي وجيبي، ولا أرى مكانا في الدنيا أحبَّ ولا أغلى عندي منه.

صمدت المكتبة في الحروب الخمسة الفائتة، وبقيت شامخة عصية على الصواريخ والراجمات، حتى جاءت هذه الحرب، وما أدراك ما هذه الحرب؟ لم يبق بيت في غزة إلا تهدم أو تصدع، وأحسن البيوت حالا ما ذهبت أبوابه ونوافذه.

وقُدر لنا أن نخرج من البيت في اليوم الثاني والعشرين من الحرب، وكنت أتتبع الأخبار وأترقب العودة، فلما تم الاتفاق على الهدنة الأولى في اليوم التاسع والأربعين لم يكن همي إلا الاطمئنان عليها ثم على البيت، فجاوزت البيت إليها، وكان بيت جيراننا الملاصق لنا قد قصف، فلما وصلت إليها ورأيت حالها ركبني من الهم والغم والكرب ما لا أطيق، تهدم نصفها الجنوبي بالكلية، وتكومت فيه الكتب مع الحجارة والركام ، وبقي نصفها الشمالي صامدا مترنحا شاكيا طغيان يهود، وقفتُ وسط الحجارة والركام واجما حزينا أجول فيها بعيني وقلبي، هنا سكن فؤادي، وحطَّت رحالي، وقرَّت عيني، وطابت نفسي.

كانت مصيبتي فيها كبيرة، وحزني عليها عظيما، ولو رُزئت بها منفردا عن الناس لانصدع قلبي عليها، ولكنْ هوَّن ما ألقى من الوَجد أني لا أرى في الناس إلا مكلوما ومصابا ومبتلى، فما أنا فيه على شدته عليَّ أهون مما فيه الناس، وما حزني عليها بأشد من حزني على مكتبة الجامعة الإسلامية، ومكتبة العمري الكبير، ولا بأشد من حزني على من مضي من إخواننا وأحبابنا وقرابتنا، وإني لأحتسبها عند الله، وأرجو فيها الخلف والعوض منه سبحانه، إنه هو البر الكريم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين