حرب غزة يوميات ومشاهدات.. ماذا يعني أن يُهدم في الحرب بيتُك؟

لست أنسى ذاك الرجل الثمانيني الذي وقف على أنقاض بيته متكئا على عصاه أول الحرب يبكي بقهر وحشرجة وألم يقول: راح البيت، راح البيت.

وثانيا سمعته يقول في حرب مضت (وله خمسة من الولد): والله لأن يموت أحد أولادي أحب إليَّ من أن يُهدم بيتي.

ومن الأمثلة السيارة في بلادنا: إلِّي بِطْلع من دارُه بِنْقَل مِقدارُه.

بناء بيت في غزة يعني أن تَجِدَّ كل الجِد وتَكُدَّ كل الكَد عشرين سنة أو أقل أو أكثر على ما يتيسر لك لتصل إلى هذا الإنجاز الكبير.

وهذا ليس لآحاد الناس وأفرادهم، بل هو الأعم الأغلب الذي لا يخرج عنه إلا القليل؛ ممن سيق إليه ميراث، أو سافر، أو تهيأ له ما لم يتهيأ لغيره.

والغزي إذا جاءه من يخطِب ابنته فإن أول ما يسأل عنه بعد دينه (إن كان معنيا بهذا): هل له بيت؟ لعلم الناس أن المستأجر أو الذي لا يملك بيتا لن يعيش حياة مطمئنة هادئة وادعة. والغزي كذلك إذا أراد أن يعُدَّ نعم الله عليه بعد الدين والعافية يقول: لي عمل وبيت مستقل أسكن فيه، والحمد لله.

وهذا الذي ذكرت طرفا منه عظُم بعد الحصار المضروب على غزة من نحو عشرين سنة، والتشديدِ في إدخال مواد البناء وغلائها، ولهذا السبب ربما يمكث الرجل في بناء بيت يستره  خمس سنوات، ولهذا السبب وغيره أيضالم تُبن كثير من البيوت التي تهدمت بعد الحروب السابقة في 2012، و2014 وما بعدها.

والحاصل من غير تطويل: أن البيت هنا شيء عظيم كبير يحصل للناس بعد تعب ونصب وجهاد، فيحرص صاحبه عليه أشد الحرص، وربما خاطر بنفسه من أجل استنقاذه؛ كما حصل للناس في هذه الحرب يوم تعجل كثير منهم في العودة إلى بيوتهم قبل انسحاب اليهود من أجل الاطمئنان عليها، أو حمايتها من اللصوص= فخرت عليهم سُقُفها وماتوا تحت ركامها.

وأعرف -ويعرف غيري- مِن سادات الناس من رفض أن يغادر بيته وقال: إما أن ننجو أو نموت في بيوتنا، فقُصفت عليهم بيوتهم، أو سلمهم الله من موت شبه محقَّق.

ومن تابع ماجَرَيات هذه الحرب من أولها علم أن اليهود قصدوا إلى تخريب وهدم وحرق أكبر عدد من البيوت؛ لسبب أو لغير سبب، دُمرت مجمعات سكنية تضم الألوف لاشتاهٍ في وجود مطلوب بينهم، ودمرت أحياء كاملة لم يسلم منها بيت، ولم يبق فيها حجر على حجر، وحدثني شباب من بيت حانون أن المدينة كلها ليس فيها بيت يصلح للسكنى، ودخلتُ أطراف حي الشجاعية فرأيت أمرا مهولا؛ والأعماق أشد من ذلك.

ومن طغيان اليهود لعنهم الله أنهم لم يكتفوا بهدم بيوت الناس وحرقها، بل حرقوا معها قلوبهم؛ فكانوا يخرجون الرجل من بيته (وهذا وقع لكثير من الناس) يقولون: تمتع بالنظر إلى بيتك وهو يحترق أو يهدم، وكثير منهم نشر صورا على المواقع وهو يرقص أو يعزف ويغني على وقع نسف البيوت وتدميرها.

ومن المضحكات المبكيات أنهم يتعمدون قصف بيوت ومنازل على طريقة لا يسقط معها البيت ولا يبقى متماسكا، فلا يملك صاحبه الانتفاع بيه إلا أن يهدمه بيديه، ويدفع مالا لهدمه، وكثير من بيوت غزة على هذه الشاكلة، أرأيتم القهر والألم؟!

وأعرف من جيراننا وغيرهم من قُصف بيته ثلاث مرات، يقصف في كل حرب ويبنيه، ويقصف ويبنيه، ويقصف فما أظنه بعد ذلك يبنيه، ألا لعنة الله على اليهود وأعوان اليهود.

هَدم البيت في الحرب يعني أن تكون في العراء تحت السماء، فإما أن تأوي إلى بيتِ قريب أو صاحب (ولْيَهْن من تيسر له ذلك على مرارته)، أو تَهيم على وجهك في المخيمات ومراكز النزوح، وما أدراك ثم ما أدراك ما مراكز النزوح؟ هناك يتكدس الناس، ويشتركون في المنافع والمرافق، لا تقيهم الخيام والغرف المكدَّسة من حر ولا برد، لا ماء ولا كهرباء ولا غاز ولا شيء مما يستقر به العيش، إلا ما يتهيأ من ذلك على قلة وندرة في ظروف وأوقات ليست هي الغالبةَ قطعا، الحياة في مراكز النزوح يمكنك اختصارها في كلمتين (القهر والمعاناة)...

هل أعتذر في كل مرة عن الإطالة، فإن في قلبي جراحا لا أحب أن يطول بها الكلام، وإني أتألم والله حين أكتب كما تتألمون حين تقرؤون. 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين