حرب غزة يوميات ومشاهدات.. مائتا يوم على حرب غزة

كنت جالسا مع بعض قرابتي في بيتنا في الأيام الأولى من الحرب (وقد جن جنون اليهود)، ودار بيننا حديث حول أمدها، ومتى يمكن أن تنتهي؟ قال أحدهم: انتهت الحرب، لم يبق شيء لم يقصفه العدو. وأنا صامت أقول في نفسي: ليت الأمر كذلك.

 

مرت الأيام، وخرجنا من البيت يحْدونا أمل العودة إليه بعد مدة يسيرة، وصار الناس يتلقفون أي خبر (ولو كان كاذبا) يبشر بانتهاء الحرب.

 

كنا في الخريف، ويا للخريف، اختُرِف فيه الشجر والحجر والبشر.. وكل شيء إلا بقايا إيمان وعزة وثبات انطوت عليها هذه النفوس الأبية.

 

ذهب الخريف وأقبل الشتاء، فأمطرت علينا السماء الحمم والنيران.
كنا حين تتلبَّد السماء بالغيوم نفرح ونقول: الآن يهدأ القصف، وتغادر الطائرات، فتخرج من بين السحب الكثيفة المظلمة وتمطرنا بالصواريخ، فتسيل الدماء الزكية مع الماء الطهور على الأرض المباركة، وتسيل معها دموع القهر والألم والعذاب والخذلان.

 

وكان يختلط علينا صوت القصف بصوت الرعد، فنقول نخادع أنفسنا: ما هذا قصفًا، إن هو إلا رعد، وما هو والله إلا الموت.

 

ذهب الخريف وأقبل الربيع، ولا ربيع اليوم، لقد كُسيت أشجارنا وسفوحنا وتلالنا باللون الأحمر، إنه لون الدم.

 

نحن بعنا المليك بيعة صدق

*** وبرئنا ممن يخون ويغدر

على أرضنا سالت دماء زكية

*** وفيها ثوى زيد العوالي وجعفر

 

كان أسوأَ ما يمكن تخيلُه أن يأتي علينا رمضان ونحن تحت القصف، فجاء رمضان، فقلنا: العيد في البيوت إن شاء الله، فجاء العيد ولا عيد، وها نحن نَغِذُّ السير إلى الأضحى، وقد انقطع الرجاء إلا من ربنا الأعلى، ونعم الرب ربنا.

 

إليك وإلا لا تشد الركائب

*** ومنك وإلا فالمؤمِّل خائب

وفيك وإلا فالغرام مضيَّع

*** وعنك وإلا فالمحدث كاذب

 

أي شيء هذه الحرب؟ تريدون أن أقرب لكم صورةَ ما الناس فيه؟

قرأت من سنوات تغريدة للأستاذ المثقف الكبير عبد الله الهدلق يقارن فيها بين الروائيين الغربيين والروائيين العرب، فقال ما مضمونه: الفرق بين هؤلاء وهؤلاء كالفرق بين فريق كرة في حارة من حواري مكة وفريق ريال مدريد (أو سمى فريقا آخر لست أذكره الآن(

 

والحروب السابقة كلها وما وقع فيها من قتل وجراح وتدمير وإفساد إذا قورنت بهذه الحرب فإنها تجيء على هذا المعنى، لَعِبُ أطفال على شدتها وفداحتها.

مائتا يوم سقطت فيها النيران على كل شبر في غزة، حَصدت معها أكثر من مائة ألف بين قتيل وجريح، وأكثر من عشرة آلاف نخِرت عظامهم وبليت أجسامهم تحت الركام.

مائتا يوم اشتدت فيها المحنة على أهل الإسلام في جنوب الشام، أَنْسَت الناسَ حروبَ الصليب والتَّتَر، ولم يَبق معها بيت وَبَر ولا مَدَر.

مائتا يوم لم تكفِ الأمةَ الخائرة لتقوم بشيء من واجب الغوث والنصرة، ولسنا بالغادرين ولا الفاجرين، ففي أمتنا خير عظيم، ولكن إلى الله المشتكى.

أين نحن بعد مائتي يوم من الأهوال؟ ما المخرج؟ وما الحل؟

يا أهل غزة حكومة وقيادة وشعبا، يا أيها الناس، إن الله لطيف بعباده رحيم بهم، ولا يُجري عليهم شيئا من الأقدار إلا لحكمة، وإن هذا الذي أصابنا قد طال واشتد، وإنه يوجب علينا جميعا أن نقف مع أنفسنا وقفة حقيقية صادقة.

 

إن البلاء لا ينزل إلا بذنب، ولا يُرفع إلا بتوبة، وما أنا بالذي يتهمكم، وما أنتم بأعزَّ على الله من خيرة خلقه وصفوة عباده الذين قال فيهم يصف حالهم عند قتال عدوهم: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

)وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ..) أي: لم يكن لهم شغُل عند لقاء عدوهم إلا سؤالَ المغفرة.

علموا أنهم إنما يُؤتَون من قِبَل ذنوبهم فبادروا إلى التوبة والاستغفار مستمطرين معية الله ونصره بذلك، فما أعلمَهم بربهم وبنفوسهم.

أيها الناس، إن ما نرجوه ونؤمِّله من النصر والعزة أولُ أسبابه، وأوسعُ أبوابه توبةٌ نصوح، واستغفار صادق، وإلا فلا نتعَنَّ.

فأعظموا الى الله الرغبة، وأعلنوا التوبة، وفِرُّوا إليه، وإنها للتي قال خالد رضي الله عنه: لا إلى سَلمى ولا أَجا، ولكن إلى الله الملتجى.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين