حرب غزة يوميات ومشاهدات.. تجرِبتي مع القراءة في الحرب

قرأت في ترجمة القائد البطل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أنه سمع جزءا حديثيا بين الصَّفَّين، وقال: "هذا موقف لم يسمع فيه أحد حديثا غيري"، وقرأت في ترجمة الشيخ عبد الله عزام رحمه الله أنه درس الماجستير وكتب بحثه في الأصول (وهو أول من تخصص في الأصول في الضِّفتَين) وهو متأبِّط سلاحه مجاهدا في قواعد الشيوخ في الأردن على حدود بلادنا فلسطين، وقرأت في ترجمة الشيخ ابن باز رحمه الله أنه ما قطع الدرس صبيحة غزو صدام، فأصبح على كرسيه وما حضر معه إلا طالب (وهو الشيخ الراجحي المعروف).

صاحب الرسالة لا يَعوقه عن رسالته شيء، وجهاد العلم والبيان لا ينزل عن جهاد السلاح والسنان، بل لا يستقيم الثاني إلا بالأول.

كنت حين دقت طبول هذه الحرب في المسجد، رجعت إلى الببيت ونظرت في الأخبار فقلت في نفسي: هذه حرب طويلة شديدة، وما بلغتْ بي الظنون أن تكون بهذا الطول وهذه الشدة، والحمد لله على كل حال.
ومن تجربتي مع الحروب السابقة أن طالب العلم في مثل هذه الشدائد لا بد أن يحسن سياسة نفسه ووقته، فما يستقيم أن يشتغل بكتبه بعيدا عن الناس وهم يُطحنون، ولا يستقيم كذلك أن يصمِد أمام الشاشات والمواقع يتابع الأخبار ضعيفا عاجزا شاكيا.

أعددت لنفسي برنامجا من صباح اليوم الأول في الحرب، وكنت قد أجلت النظر في طائفة من الكتب (غالبها في التاريخ والفكر والسير وما إليها)، فقلت: هذا وقتها، فهذا النوع لا يحتاج إلى تركيز عال، ثم إنه يفتح لك أبوابا من فهم الواقع والسنن وتقلبات الأمم مما لا يستغني عنه مهموم بواقع بلاده وأمته.

أول كتاب قرأته في اليوم الأول "تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي" للشيخ عبد الفتاح أبي غدة (وكتب هذا الشيخ وتعاليقه حبيبة إلى قلبي).

ليست أيام الحرب ولياليها على ما يحب المرء ويشتهي، هذه ليست نزهة برية، ولا رحلة ترفيهية، هذه حرب لم تشهد بلادنا مثلها مذ عرفت التاريخ أو عرفها التاريخ، أتت علينا أيام وليال وساعات لا يصلح لها ولا يستقيم فيها إلا أن تحمل سلاحك أو تدعو الله دعوة الغريق الذي أيس من الحياة وأيقن بالموت، ثم أنت لا تدري هل تلتفت إلى نفسك أو إلى الضعَفة من النساء والأطفال، ونحن قوم نموت دون حريمنا وأعراضنا.
وتأتيك أيام وليال متوسطة أو هادئة (والهدوء نسبي كما لا يخفى، فما في الحرب هدوء وأمان)، وأنت في كل ذلك مطالب بحق ربك جل وعلا، ثم بحق أهلك والقيام على مصالحهم ورعايتهم، ثم بحقوق الناس إن كنت على ثغر من ثغور العلم أو الجهاد أو الدعوة أو الإغاثة أو على هذه الثغور كلها، والموفق من وفقه الله تعالى.

وكنت إذا قضيت ما علي من حقوق حسب الوسع والإمكان (والله يعفو ويغفر) لم يكن لي شغل إلا القراءة، وبقيت على هذه الحال حتى خرجنا من البيت، وقدَّرت أن العودة قد تطول فصحبت معي قريبا من عشرة كتب (وهي التي تهيأ لى حملها)، منها: "معيد النعم" للسبكي، و"الإعلان بالتوبيخ" للسخاوي، و"روضة العقلاء" لابن حبان، و"سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" (أفضل وأطول ترجمة لسيد) للخالدي، و"قانون التأسيس العقدي" للعميري، و"الرحيق المختوم" (قرأته من قبل مرات كثيرة، وأُحب صحبتَه)، وغيرها.

وقلت: نقرأ هذه الكتب وتنتهي الحرب ونعود إن شاء الله إلى مكتبتنا، قرأت الكتب وبقيت الحرب وطالت وامتدت، وقد احتطت لذلك بالكتب المصورة (صيغة الـــ بي دي أف)، لكني لست معتادا عليها إلا مضطرا إلى صفحات يسيرة، فاستعنت بالله وجربت حظي مع الكتاب الأول "سماء الذاكرة" للطريري، فوجدتها تجربة ممتعة، وواصلت حتى قرأت خمسين كتابا مصورا على الهاتف الجوال (آخرها "اختلاف الإسلاميين" لأحمد سالم)، أقلها مائة صفحة، وأطولها أكثر من ثلاثة آلاف صفحة، سوى الكتب الورقية التي صحبتها= قراءة جرد وتدقيق وتلخيص (ولي عودة إلى تجربة الكتب المصورة بإذن الله).

أعتذر عن الإطالة، وقد بقي في نفسي أشياء لم أستوفها لعلي أعود إليها هنا أو في مكان آخر إن شاء الله تعالى، وهذه تجربة أحببت نقلها لإخواني لعله ينتفع بها منتفع، والفضل والمنة في ذلك لله تعالى، ثم لمن نزلت في ضيافتهم، فلهم مني خالص الشكر والدعاء، رزقنا الله وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم آمين.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين