حرب غزة يوميات ومشاهدات.. الـمُحارِبات

كل حرب يخوضها شعب أو أمة من الأمم يبرز فيها أناس وصور وأحداث، يخطفون المشهد والأنظار، ويختفي خلف الستر أناس هدَّتهم الآلام، وأضْنتهم الأحزان، يعَضون على الجراح في صمت، ويتجرعون المآسي في سكون وثبات، لا ضجيج ولا صخب ولا استعراض ولا شيء مما يلهث خلفه الناس.

ألا تعجبون كيف تنطوي هذه الأجسام النحيلة الرقيقة على قلوب أثبت من الجبال، وعزائم أمضى من الصوارم؟!

شأنهن الزينة والحُلي والنعومة والدلال، لكنهن ما عرفن زينة ولا حليا ولا نعومة ولا دلالا.

يبِتن متلفِّعات بمروطهن وجلاليبهن خشية أن يصيبهن القصف فيلقين الله متكشفات.

يغيب زوج الواحدة منهن أو ولدها أو أبوها أو أخوها أشهرا لا تدري عنه شيئا، ولا يصلها منه خبر، فقل لي بربك: كيف تكتحل بنوم، أو تهنأ بطعام أو شراب؟!

ثم يأتيها خبره فتبدأ رحلة جديدة من الألم والعناء؛ في بيتها -إن بقي لها بيت،- أو مشردة مع صغارها بين الخيام ومراكز النزوح، لا معين ولا كفيل لها إلا الله، وكفى بالله كفيلا.

أكثر من عشرة آلاف امرأة مات عنهن أزواجهن في الحرب، وقريب منهن من قضين وخلَّفن صغارا وأطفالا، فأي حياة للمرأة بلا زوج؟ وأي عيش للصغار بلا أم؟

رأيت إحداهن سُئلت في يوم المرأة العالمي (قبح الله وجوهكم أيها الفجرة، تقتلونها كل يوم ألف قتلة، ثم تحتفلون بيوم لها في السنة) عن شعورها في هذا اليوم؟ أتدرون ماذا قالت؟ إنها تتمنى في هذا اليوم أن تملا (جالونا) من المياه المالحة، هذا يومها، وهذا عيدها.

رحلة النساء هنا عظيمة شاقة مبكية، من يوم أن تفتح عينها على الدنيا إلى أن تلقى الله؛ بنتا وأختا وزوجة وأما؛ بنت شهيد، أو أخت شهيد، أو زوج شهيد، أو أم شهيد (نحسبهم كذلك، ولا نزكي أحدا على الله تعالى)، تجاهد في تربية أبنائها، ورعاية زوجها وأسرتها، تنتقل في الحرب من بيت إلى بيت، ومن ملجأ إلى ملجأ، تتجرع المر والعلقم في صبر وتضحية وثبات.

في أحضانهن نبت الرجال، وبأيديهن غرست راية المجد، جهادهن أشرف جهاد، وصبرهن أعظم صبر.

سلام عليكن أيتها الصابرات القانتات الحييَّات المجاهدات، لله صنائعكن، وعلى الله أجوركن، غدا تسترحن من المعاناة، وتوفَّين أجوركن بغير حساب، وتحيَين حياة لا خوف فيها ولا موت، ولا فقد ولا حرمان، ولا صخب ولا نصب.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين