حرب غزة يوميات ومشاهدات.. أليس في الناس رجل صالح يدعو الله؟

كنت ماشيا على عَجل فلقيني رجل، فقال لي: هؤلاء الناس جميعا، أليس فيهم من يدعو الله تعالى بإيقاف هذه الحرب وتخليص الناس مما هم فيه من عناء، أليس فيهم من يستجيب الله له.

لو قلتُ: وقع لي هذا عشرين مرة وأكثر ما بالغتُ.

والجواب عن هذا السؤال طويلُ الذيل، والكلام فيه متشعب، وقد التزمت في هذه المقالات عدم التطويل، فأقول مستعينا بالله مستمدا منه العون والتيسير والتوفيق:

هذه الشدائد والمصائب التي يبتلي الله بها عباده إنما هي ظروف لأقداره، وأقداره جل وعلا جارية على العدل والحكمة، فهو سبحانه لا يقضي ولا يقدر شيئا إلا لحكمة، وكثير من هذه الحكم الإلهية تخفى على الخلق ولا تتبين لهم.

والنفوس مجبولة على حب العافية والسلامة، والنَّفرة من الشدائد والمحن، ولهذا يستعجل الناس الفرج عند وقوع الكرب، وتضيق نفوسهم بما يجري عليهم من ألوان البلاء، وذلك شيء جِبِلِّيٌّ في أصله لا يُنكر، والكلامُ عمَّا يصاحبه مما يَخرج به العبد عن الشرع.

ومن الحقائق العظيمة التي ينبغي أن تكون حاضرة في قلب العبد أبدا: أن هذه الدنيا إنما هي دار امتحان وبلاء وشقاء، وأنه لا راحة للعبد إلا هناك عند الله، حيث يحط رحاله في الجنات (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64].

طُبعت على كدر وأنت تريدها

*** صَفْوا من الأقذار والأكدار

ومكلِّف الأيام ضد طباعها

*** متطلبٌ في الماء جَذوة نار

 

ولسنا بِدْعًا من الخلق، فإن ما نحن فيه جرى مثله وأشدُّ منه على سادات الخلق من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم= فاستقبَلوه بالإيمان والتسليم، والصبر والتقوى، والتوبة والضراعة حتى أذن الله بالفرج، وكانت لهم العاقبة.

واعتبروا في هذا بحال نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يزل يتقلب في الشدائد مذ بعثه الله حتى لحق به، وركبه منها ما لو ركب الجبالَ لدُكَّت، وما كان منه إلا الصبر والتجمُّل، وهو في الحالَين جارٍ على سنة من سبقه من النبيين (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف: 35].

وما بالله حاجة في تعذيب عباده وأوليائه، لكنه يريد أن تَخْلص قلوبهم له، وتتعلق به وحده، وتتوكل عليه، ويَحصل لها الإياس من جهة المخلوقين، ولهذا يطول البلاء ويشتد؛ ليَحصل للعبد هذا الإقبال على ربه، وتَعظم منه الضراعة والإنابة، ويعود على نفسه بالتهمة واللائمة، وينغرس في قلبه من حقائق الإيمان والتوحيد ما لا يمكن أن يحصل إلا بهذه الشدائد، لكنَّ العبد يسعى إلى حظ نفسه، والله يريد ما وراء ذلك، وأكثر الخلق من هذا في غفلة، وعنه بمعزِل، والموفق من وفقه الله.

وكذلك فإن البلاء يطول ليطول معه وقوف العبد بباب ربه، ويكونَ منه الإلحاح والانكسار، وإن الذي يحصل للعبد بذلك من الإيمان والهدى والأجر خير له من زوال الشدة وحصول اليسر في معيشته، وهذا المعنى الأخير أشار إليه شيخ الإسلام في "الفتاوى"، وابن القيم في "المدارج".

والمرء على كل حال يتعبد اللهَ بالدعاء، فإن لم يُستجَب له فليتهم نفسه، وليصحح توبته، ويستعمل أسباب الإجابة ويجتنب موانعها، فإن لم تقع الإجابة مع ذلك لا يمل، ولا يبرح باب مولاه، وليلحظ ما سبقت الإشارة إليه، وليعلم أنه ربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، أو أن الله يدخر له من الأجر أو يصرف عنه من السوء مثلها، أو غير ذلك مما دلت عليه الأحاديث والآثار، فراجي المولى لا يخيب، وتجارته رابحة على كل حال.

اللهم اجعل ضيقنا إلى سَعة، وحزننا إلى فرح، وخوفنا إلى أمن، وفقرنا إلى غنى.

اللهم إنا نسألك قوة منك لا تبقي فينا ضعفا، وغنى منك لا يبقي فينا إلى أحد من خلقك فقرا، وعزة منك لا تبقي فينا ذلا، ورحمة منك لا تبقي علينا سخطا.

اللهم آمين آمين.


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين